PDA

View Full Version : فن التوجيه في التفسير (1): السؤال يوم القيامة بين النفي والإثبات



chelsea2
09-18-2015, 20:17
يمكن تحديد معنى التوجيه في استعمال المفسرين بأنه مصطلح يتضمن المعنيين الآتيين:

المعنى الأول: بيان وجه الكلام الظاهر، أي معناه المباشر، وهو هنا بمعنى التفسير، فلا مزية للمصطلح.

المعنى الثاني: التماس وجه الكلام الخفي ببيان معناه، وحيثية هذا المعنى دون غيره مع احتماله له، أو التعليل لما يظهر فيه من إشكال، وهذا هو الذي يستعمله المفسرون إذا ذكروا وجه الكلام.

والمقصود من فن التوجيه في التفسير: البحث عن مغزى الكلام الذي أثار إشكالاً في ذهن السامع، كما قال الدهلوي: "فإذا حل المفسر هذا الإشكال، سمي ذلك الحل: توجيهاً".

آيات السؤال يوم القيامة في القرآن الكريم

من الآيات التي أثارت إشكالاً عند بعض السامعين آيات السؤال يوم القيامة، فقد أُثبت السؤال في مواضع، ونُفي في مواضع أخرى.

فمن الآيات التي أثبتت السؤال يوم القيامة قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} (الأعراف:6-7).

ومن الآيات التي نفت السؤال يوم القيامة قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39).

وقد بين علماؤنا رحمهم الله أن الملحدين يثيرون الشبه بذكر هذه الآيات لغير العالمين من المسلمين؛ ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم، وقد عبر الطبري هذا بقوله: "فإن قال قائل: وكيف يسأل الرسل والمرسل إليهم، وهو يخبر أنه يقص عليهم بعلم بأعمالهم وأفعالهم في ذلك؟". وقال القرطبي: "وهذه الآية أكثر ما يسأل عنها أهل الإلحاد في الدين، فيقال: لِمَ قال: {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (هود:105) و{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (المرسلات:35-36) وقال في موضع من ذكر القيامة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (الصافات:27) وقال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} (النحل:111) وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصافات:24)، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39)".

توجيه النفي والإثبات لسؤال الله تعالى العباد عن أعمالهم يوم القيامة

وجَّه المفسرون ذلك بعدة توجيهات، تدل عليها الاستعمالات الخطابية في لغة العرب، وترجع توجيهات المفسرين إلى ستة أحوال ومواطن يكون فيها حال المتكلم عنهم مختلفاً:

الحالة الأولى: السؤال المنفي هو سؤال التبين والاستثبات والاسترشاد والاستعلام والتعرف لما هو به غير عالم، وأما السؤال المثبت منه -تعالى ذكره- فهو سؤال التوبيخ والتقرير والتقريع؛ لذا قال الطبري في السؤال المنفي: "فأما الذي هو عن الله منفيٌ من مسألته خلقه، فالمسألة التي هي مسألة استرشاد واستثبات فيما لا يعلمه السائل عنها، ويعلمه المسؤول ليعلم السائل علم ذلك من قبله، فذلك غير جائز أن يوصف الله به؛ لأنه العالم بالأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها، وهي المسألة التي نفاها جل ثناؤه عن نفسه بقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39)، وبقوله: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (القصص:78)، يعني: لا يسأل عن ذلك أحداً منهم بمسألة مستثبتٍ ليعلم علم ذلك من قبل من سأل منه؛ لأنه العالم بذلك كله، وبكل شيء غيره... وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في معنى قوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} أنه يُنطِق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم، وهذا قول غير بعيد عن الحق غير أن الصحيح من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فيقول له: أتذكر يوم فعلت كذا وفعلت كذا؟) حتى يذكِّره ما فعل في الدنيا، والتسليم لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من التسليم لغيره".

كما قال الطبري في السؤال المثبت: "هو مسألة توبيخ وتقريرٍ معناها الخبر، كما يقول الرجل للرجل: ألم أحسن إليك فأسأت؟ وألم أصلك فقطعت؟ فكذلك مسألة الله المرسل إليهم بأن يقول لهم: ألم يأتكم رسلي بالبينات؟ ألم أبعث إليكم النذر فتنذركم عذابي وعقابي في هذا اليوم من كفر بي وعبد غيري؟ كما أخبر جل ثناؤه أنه قائل لهم يومئذ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (يس:60-61)، ونحو ذلك من القول الذي ظاهره ظاهر المسألة ومعناه الخبر والقصص، وهو بعدُ توبيخ وتقرير".

ومثل ذلك مسألة الله تعالى للرسل الوارد في قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (الأعراف:6) فهو لإقامة الحجة على المرسل إليهم بعلمه سبحانه بعد أن يتدرج في سؤالهم عن مجيء الرسل إليهم، "فإن الأمم المشركة لما سئلت في القيامة قيل لها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} (الزمر:71)؟ أنكر ذلك كثير منهم وقالوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} (المائدة:19) فقيل للرسل: هل بلغتم ما أرسلتم به؟ أو قيل لهم: ألم تبلغوا إلى هؤلاء ما أرسلتكه به؟ كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال جل ثناؤه لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة:143)، فكل ذلك من الله مسألة للرسل على وجه الاستشهاد لهم على من أرسلوا إليه من الأمم، وللمرسل إليهم على وجه التقرير والتوبيخ، وكل ذلك بمعنى القصص والخبر"؛ ولذا قال الله بعد ذلك: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} (الأعراف:7)، والمعنى كما يقول الطبري: "يقول تعالى ذكره: فلنخبرن الرسل ومن أرسلتهم إليه بيقين علمٍ بما عملوا في الدنيا فيما كنت أمرتهم به وما كنت نهيتهم عنه، {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} عنهم وعن أفعالهم التي كانوا يفعلونها"، وقال الطاهر بن عاشور: "وإثبات سؤال الأمم هنا لا ينافي نفيه في قوله تعالى: {وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} لأن المسؤول عنه هنا هو التبليغ، والمنفي في الآيتين الأخريين هو السؤال لمعرفة تفاصيل ذنوبهم، وهو الذي أريد هنا في قوله: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}.


الحالة الثانية: يدخل في السؤال المنفي السؤال عن تفاصيل الأحوال والأفعال بقصد العلم، ويكون السؤال المثبت هو السؤال عن سبب تلك الأعمال للتوبيخ والتقريع وبيان العظمة الإلهية، وإظهار ولاية الله تعالى للمؤمنين: كما قال ابن عباس: لا يسألهم: هل عملتم كذا وكذا؛ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا؟. ونقل القرطبي هذا القول عن ابن عباس فقال: لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام: هل عملتم كذا وكذا؛ لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ، فيقول لهم: لِمَ عصيتم القرآن؟ وما حجتكم فيه؟ ومن أبرز مظاهر ذلك ما رواه النسائي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: يا رب! هذا قتلني، فيقول الله له: لم قتلته؟ فيقول: قتلته لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي. ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: إن هذا قتلني، فيقول الله له: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيقول: إنها ليست لفلان، فيبوء بإثمه).


الحالة الثالثة: السؤال المثبت سؤال البيان لأكاذبيهم، والسؤال المنفي يكون بعده بإخراسهم وبيان براهين كذبهم للخلق: فيسألون أولاً فيكذبون؛ فمن الأشياء التي يسألون عنها: السؤال عن شركائهم كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ*ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام:22-23)، وقد كذبوا في الإجابة كما قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأنعام:24)، ولذا روى الطبري عن قتادة: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرحمن:39) قال: قد كانت مسألة، ثم ختم على ألسنة القوم، فتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (النمل:83-84)، ثم يمنعون من الكلام، ولا يسألون بعدُ كما قال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} (النمل:85)، ومما بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يتعلق بذلك، ما ورد في "صحيح مسلم" أن العبد يلقى ربه يوم القيامة، فيقول: (أى فُلُ! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الْخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. فيقول: أفظننت أنك ملاقى؟ فيقول: لا. فيقول: فإنى أنساك كما نسيتنى. ثم يلقَى الثانى فيقول: أى فُلُ! ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، أى رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإنى أنساك كما نسيتنى. ثم يلقَى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت. ويثنى بخير ما استطاعَ، فيقول: ها هنا إذا، ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك. ويتفكر فى نفسه من ذا الذى يشهد علي؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقى فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليُعْذِر من نفسه. وذلك المنافق، وذلك الذى يسخط الله عليه).

الحالة الرابعة: نفي النطق بعد السماح به هو نفي لكلام يمكن أن يسمى كلاماً في العرف الشائع، فهم يهذون عند السؤال بما لا يصلح حجة، ولا يسمى كلاماً، ثم لا يسألون بعد ذلك: ذكر ذلك القرطبي في توجيهٍ رائعٍ آخر للآيات فقال: "لا ينطقون بحجة تجب لهم، وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، ولوم بعضهم بعضاً وطرح بعضهم الذنوب على بعض، فأما التكلم والنطق بحجة لهم، فلا، وهذا كما تقول للذي يخاطبك كثيراً وخطابه فارغ عن الحجة: ما تكلمت بشيء، وما نطقت بشيء، فسمي من يتكلم بلا حجة فيه له غير متكلم، وقال قوم: ذلك اليوم طويل، وله مواطن ومواقف في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم الكلام، فهذا يدل على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه".


الحالة الخامسة: السؤال المنفي سؤال الرحمة، والسؤال المثبت سؤال التنديم والتنكيل وزيادة الحسرة: ولذلك يعترفون، فلا ينفع الاعتراف، ويئنون ولات حين نجدة أو إسعاف، فلا يسمعون من الله إلا ما يزيد تبيكتهم.. حكى الله عنهم ذلك في قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام:128)، ثم يسألهم سؤال المنكر عليهم الموبِّخ لهم فيقول: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} (الأنعام:130).