MedMan
02-06-2016, 16:33
سعر أي سلعة في العالم يتأثر بعوامل العرض والطلب، فيرتفع السعر مع نمو الطلب وشح العرض والعكس بالعكس. هذه المعادلة تنطبق على السلع الاستهلاكية فقط، وهي السلع التي تُستهلك أي تتلاشى أو تذهب إلى غير رجعة، لكنها لا تنطبق بحرفيتها على الذهب! لماذا؟ لأنه سلعة غير استهلاكية. سأحاول هنا توضيح ماهية العرض والطلب الحقيقيين على الذهب وسأوضح الفرق بين الذهب كاستهلاك وادخار، مفرقاً بينه وبين غيره من "السلع".
الذهب الموجود فوق سطح الأرض، وتحت سطح الأرض
بحسب الأرقام الأخيرة الصادرة عن مجلس الذهب العالمي، فإن ما تم استخراجه من الذهب من باطن الأرض منذ العام 1850 م حتى اليوم يبلغ 177,200 طن متري تفوق قيمتها بقليل 8 تريليونات دولار أميركي (بحسب سعر 1300 دولار للأونصة). هذه الكمية لو جُمعت في مكان واحد على شكل مكعب ضخم لكان ضلع المكعب أقل بنحو مترين من ملعب تنس نظامي، ولكان هذا المكعب مناسب تماما لملىء الفراغ تحت برج إيفل في فرنسا. وهذه الكمية الموجودة فوق سطح الأرض ذهبت إلى الاستخدامات التالية:
85,900 طن لصياغة المجوهرات والحلي الذهبية (48,5%)
21,600 طن للصناعة (تقنية، هواتف، أسنان....) (12,2%)
35,500 طن للاستثمارات الخاصة (20%)
30,500 طن احتياطي في البنوك المركزية (17,2%)
أما الكمية التي لا تزال في باطن الأرض فتقدّر بـ 54 ألف طن أي أقل من ثلث الكمية المستخرجة فقط (هذا في حال لم يتم اكتشاف أي منجم عملاق جديد)، ومع بقاء معدلات الإنتاج العالمية ثابتة عند 3 آلاف طن سنويا، فهذه الكمية ستنتقل من تحت إلى فوق سطح الأرض في غضون 18 عاما تقريبا.
معلومة: لو قسمنا حجم الذهب الموجود فوق سطح الأرض على عدد سكان الكوكب البالغ نحو 7.065 مليار نسمة، لبلغت حصة الفرد نحو 28 غرام من الذهب الصافي والتي تبلغ قيمتها بسعر اليوم نحو 1150 دولار. أي لو تم توزيع الذهب الموجود في الأرض على سكانها لانتهينا من الفقر في يوم واحد!!! لكن أصحاب الذهب بالتأكيد لن يفعلوا ذلك ولا حتى في الأحلام! فمن هم أصحاب الذهب؟
البنوك المركزية وحيازتها من الذهب، لماذا تشتري؟ ومتى تشتري
في الفقرة السابقة يتوضح لنا أن الكمية الأكبر من الذهب موجودة على شكل حلي ذهبية لدى العائلات، لكنها بالتأكيد موزعة على مئات الملايين من الأفراد أي أنها لا تتركز لدى جهة معينة. التركيز الأكبر لسبائك الذهب موجود في أماكن مشددة الحراسة لدى البنوك المركزية الكبرى وهذه القائمة تبين بعضها:
1- الولايات المتحدة 8133 طن قيمتها بالأسعار الحالية 373 مليار دولار
2- ألمانيا 3386 طن
3- صندوق النقد الدولي 2814 طن
4- إيطاليا 2452 طن قيمتها 112,5 مليار دولار وهي كافية لإخراج إيطاليا من أزمة ديونها الخانقة!
5- فرنسا 2435 طن
6- روسيا 1068 طن
7- الصين 1054 طن معظمها تم شراؤه في السنوات الأخيرة
17- السعودية 323 طن أو 11,393 أونصة قيمتها 14.8 مليار دولار
19- لبنان 287 طن
البنوك المركزية استحوذت على الذهب منذ أكثر من مئة عام لاستخدامه كاحتياطي داعم لعملاتها الوطنية أو ما كان يسمى سابقا "الغطاء الذهبي". وقد ازدادت حيازاتها على مر الزمن لاقتناعها بأهمية المعدن الثمين في المحافظة على قيمة عملتها وتحقيق استقرارها. الرئيس الأميركي روزفلت أكد هذه الأهمية في العام 1933 بإصداره قانون الذهب الذي أجبر المواطنين على بيع ما يملكونه من عملات ذهبية وسبائك إلى الاحتياطي الفيدرالي الذي بدأ من حينها بادخار الذهب.
سياسات البنوك المركزية تختلف باختلاف دولها من حيث الحجم وقوة الاقتصاد وتراكم الفوائض التجارية وأحيانا تختلف باختلاف نظرة المركزي والقائمين عليه، فمثلا العراق اشترى قبل عدة أشهر 35 طنا من الذهب، مستفيدا من بيع نفطه بأسعار مرتفعة وتراكم الفائض لديه. السعودية أيضا اتجهت مؤخرا لتراكم الذهب في خزائنها بدلا من العملات الأجنبية. أما لبنان والذي كان يتصدر الدول العربية من حيث الاحتياطي الذهبي فكانت رؤية القائمين على مصرفه المركزي هي التي دفعته إلى تراكم هذا الاحتياطي الكبير مقارنةً بحجم الدولة الصغير، ولربما الخوف من خسائر الليرة اللبنانية أو انهيارها مع أي توتر سياسي هو الدافع الحقيقي لذلك (وقد لعبت هذه السياسة الدور المرجو منها بكفاءة عالية).
مخزون الذهب العالمي، هل ينقص؟
بإجابة قصير، لا لا ينقص! فالذهب كما ذكرت في المقدمة هو سلعة غير مستهلكة، بل هي تدور أو تنتقل من يد إلى يد. فمن يشتري المجوهرات لا يستهلكها بل يرتديها، ويستطيع بيعها متى أراد. ومن يشترى العملات الذهبية أو السبائك فهدفه هو الادخار وليس الاستهلاك، وقد تبقى السبيكة بحوزته أعواما طويلة ثم يبيعها أو يورثها دون أن تنقص ولو حتى غراما واحدا. والبنوك المركزية تشتري الذهب وتراكمه، وقد تبيع جزءا منه دون نقصان. وحتى لو أخذنا الذهب المستخدم في الصناعة (رغم نسبته القليلة) فإن الهواتف الذكية والرقائق الالكترونية التي تستخدم الذهب غالبا ما تتم إعادة تدويرها واستخراج ما فيها من ذهب وفضة وبلاتين لإعادة استخدامه في الصناعة. وأستثني بالطبع ما يستخدم من الذهب في صناعة الأسنان الذهبية والذي لن تتم إعادة استخراجه من أفواه الموتى قبل دفنهم!!
ولو أردنا المقارنة بسلع أخرى فالفرق واضح. سأبدأ بالنفط والذي يستهلك بشكل واضح في الصناعة والنقل، رغم تخزينه لفترة في بعض الدول لكن الهدف في النهاية هو الاستهلاك. والسلع الغذائية فاستهلاكها واضح ولا حاجة لشرحه. وحتى العقارات، فلها نسبة اهتلاك معينة سنويا، وتحتاج إلى إعادة تأهيل كل عشر أو خمسة عشر سنة، بعكس الذهب الذي لا يحتاج إلى أي إضافة أو اهتلاك بل ينتقل دون أي نقصان بالوزن. وهذا ما يجعل منه سلعة مميزة.
الطلب الافتراضي على الذهب
ناقشنا الطلب من الأفراد والصناعة والبنوك المركزية، بقيت الجهة الرابعة التي تستحوذ على نحو 35 ألف طن من الذهب الموجود فوق سطح الأرض وهو "الاستثمارات الخاصة أو private investments والتي تشمل صناديق التحوط وصناديق حيازة الذهب وشركات الاستثمار في مؤشرات الذهب والتي تحتفظ بمخزون ذهبي كغطاء لعقود شراء وبيع المعدن في البورصة.
سأعطي هذه المعلومة قبل تفصيل الطلب الافتراضي: في عام 2013 وهو الذي شهد أول تراجع لسعر أونصة الذهب منذ العام 2000 ، كانت هذه الجهة "الاستثمارات الخاصة" هي الوحيدة التي باعت كميات هائلة من الذهب على عكس الجهات الأخرى فقد اشترت البنوك المركزية في 2013 نحو 409 طنا من الذهب بينما استهلكت الصناعة 408 طنا وازدادت حيازة الأفراد من النقود الذهبية بنحو 900 طن، وقد استخدمت صناعة المجوهرات 2360 طنا، أما صناديق الاستثمار في الذهب فقد باعت 880 طنا من الذهب!! فهل هي من تسببت بتراجع الأسعار 28% في 2013؟
يبلغ حجم سوق تجارة الذهب في البورصات العالمية 20 تريليون دولار يوميا!! وقد ذكرنا أن كامل الذهب المستخرج حتى اليوم تبلغ قيمته 8 تريليونات دولار، هذا على افتراض استخدامه بشكل كامل في التداول (وبالطبع هذا غير ممكن حتى). فمن أين جاءت هذه القيم الهائلة من التداولات؟ بالتأكيد من الرافعة المالية أو ما يسمى leverage والتي تعطيها البنوك وصناديق الاستثمار لعملائها لكي يستطيعون الشراء بكميات أكبر من رأس المال المستثمر بحيث يستطيعون من خلالها مضاعفة أرباحهم، وهو أمر قانوني 100% ومنظم من قبل جهات رقابية كبرى. لكن تأثير هذا الموضوع بالتالي سيكون مضاعفا على سعر الذهب من خلال جعله الطلب مضاعفا. وهو ما يحصل في البورصات العالمية. فمثلا: لماذا قفزت أونصة الذهب 20 دولارا في لحظات بعد إعلان خبر إسقاط الطائرة الماليزية شرقي أوكرانيا؟ صنّاع المجوهرات لن يزيدوا طلبهم بسبب سقوط طائرة، والبنوك المركزية لن تتصرف بشكل لحظي وسريع لزيادة احتياطيها الذهبي، ولا صناعة التكنولوجيا ستتأثر بذلك، ولكن... المضاربون في البورصات والذين يسيطرون على حسابات بـ 20 تريليون دولار (مع الرافعة المالية) يتوقعون أن هذا الخبر سيرفع الطلب على الذهب مستقبلا فيعمدون إلى وضع طلبات شراء بكميات كبيرة مما يؤدي إلى رفع السعر افتراضيا وليس بشكل حقيقي، وهذا يفسّر التراجع الحاد أيضا في السنة الماضية والذي لم يكن مستنداً على عرض حقيقي. فلو تركنا أسواق الذهب تسير بدون "مضاربات" في البورصات فإن الاتجاه الحقيقي للأسعار سيكون نحو الأعلى بشكل دائم نتيجة استمرار الأفراد والبنوك بتخزين الذهب، (اللهم إلّا إذا باعت البنوك المركزية كميات كبيرة من الاحتياطي في فترة قصيرة الأمر الذي قد يضر بالأسعار، وخصوصا أنها تمتلك 30 ألف طن بينما إنتاج المناجم السنوي لا يتعدى 3 آلاف طن، وهو أمر برأيي نادر الحدوث) ولا سيما أيضا وأن استهلاك صناعة المجوهرات والتقنية ينمو بشكل بطيء نوعا ما وهو تابع للزيادة السكانية العالمية.
فكرة الختام
سأختم هذا المقال بفكرة قد تبدو جنونية نوعا ما (هذه الفكرة بالفعل متداولة بين أوساط المحللين)، وهي تقول بأننا يجب أن نضيف إلى تحليلنا كميات الذهب المستخرجة قبل عام 1850 م وهو العام الذي بدأ فيه إحصاء إنتاج الذهب. يقول البعض أن هذه الكميات هي قليلة نسبيا لا تتعدى بضعة أطنان اكتشفت في قبور الفراعنة، وبضعة أطنان أخرى في الدولة الرومانية القديمة على شكل حلي ذهبية، وبعضها في معابد المايا في أميركا اللاتينية. ولكن بعضهم لايزال يؤمن بوجود كنوز لم تكتشف بعد ويستشهد بوجود سفن محملة بمئات الأطنان من الذهب غارقة في المحيطات تنتظر مستكشفها، وهي قد تقلب معادلة الذهب عالميا، فمئة طن إضافية من الذهب تساوي اليوم 4.5 مليار دولار! ولكن كم يا ترى تساوي مدينة "إلدورادو" الذهبية الاسطورية في أميركا الجنوبية والتي دوخّت مكتشفي أوروبا لمئات السنين؟ في حال اكتشافها طبعا!
الذهب الموجود فوق سطح الأرض، وتحت سطح الأرض
بحسب الأرقام الأخيرة الصادرة عن مجلس الذهب العالمي، فإن ما تم استخراجه من الذهب من باطن الأرض منذ العام 1850 م حتى اليوم يبلغ 177,200 طن متري تفوق قيمتها بقليل 8 تريليونات دولار أميركي (بحسب سعر 1300 دولار للأونصة). هذه الكمية لو جُمعت في مكان واحد على شكل مكعب ضخم لكان ضلع المكعب أقل بنحو مترين من ملعب تنس نظامي، ولكان هذا المكعب مناسب تماما لملىء الفراغ تحت برج إيفل في فرنسا. وهذه الكمية الموجودة فوق سطح الأرض ذهبت إلى الاستخدامات التالية:
85,900 طن لصياغة المجوهرات والحلي الذهبية (48,5%)
21,600 طن للصناعة (تقنية، هواتف، أسنان....) (12,2%)
35,500 طن للاستثمارات الخاصة (20%)
30,500 طن احتياطي في البنوك المركزية (17,2%)
أما الكمية التي لا تزال في باطن الأرض فتقدّر بـ 54 ألف طن أي أقل من ثلث الكمية المستخرجة فقط (هذا في حال لم يتم اكتشاف أي منجم عملاق جديد)، ومع بقاء معدلات الإنتاج العالمية ثابتة عند 3 آلاف طن سنويا، فهذه الكمية ستنتقل من تحت إلى فوق سطح الأرض في غضون 18 عاما تقريبا.
معلومة: لو قسمنا حجم الذهب الموجود فوق سطح الأرض على عدد سكان الكوكب البالغ نحو 7.065 مليار نسمة، لبلغت حصة الفرد نحو 28 غرام من الذهب الصافي والتي تبلغ قيمتها بسعر اليوم نحو 1150 دولار. أي لو تم توزيع الذهب الموجود في الأرض على سكانها لانتهينا من الفقر في يوم واحد!!! لكن أصحاب الذهب بالتأكيد لن يفعلوا ذلك ولا حتى في الأحلام! فمن هم أصحاب الذهب؟
البنوك المركزية وحيازتها من الذهب، لماذا تشتري؟ ومتى تشتري
في الفقرة السابقة يتوضح لنا أن الكمية الأكبر من الذهب موجودة على شكل حلي ذهبية لدى العائلات، لكنها بالتأكيد موزعة على مئات الملايين من الأفراد أي أنها لا تتركز لدى جهة معينة. التركيز الأكبر لسبائك الذهب موجود في أماكن مشددة الحراسة لدى البنوك المركزية الكبرى وهذه القائمة تبين بعضها:
1- الولايات المتحدة 8133 طن قيمتها بالأسعار الحالية 373 مليار دولار
2- ألمانيا 3386 طن
3- صندوق النقد الدولي 2814 طن
4- إيطاليا 2452 طن قيمتها 112,5 مليار دولار وهي كافية لإخراج إيطاليا من أزمة ديونها الخانقة!
5- فرنسا 2435 طن
6- روسيا 1068 طن
7- الصين 1054 طن معظمها تم شراؤه في السنوات الأخيرة
17- السعودية 323 طن أو 11,393 أونصة قيمتها 14.8 مليار دولار
19- لبنان 287 طن
البنوك المركزية استحوذت على الذهب منذ أكثر من مئة عام لاستخدامه كاحتياطي داعم لعملاتها الوطنية أو ما كان يسمى سابقا "الغطاء الذهبي". وقد ازدادت حيازاتها على مر الزمن لاقتناعها بأهمية المعدن الثمين في المحافظة على قيمة عملتها وتحقيق استقرارها. الرئيس الأميركي روزفلت أكد هذه الأهمية في العام 1933 بإصداره قانون الذهب الذي أجبر المواطنين على بيع ما يملكونه من عملات ذهبية وسبائك إلى الاحتياطي الفيدرالي الذي بدأ من حينها بادخار الذهب.
سياسات البنوك المركزية تختلف باختلاف دولها من حيث الحجم وقوة الاقتصاد وتراكم الفوائض التجارية وأحيانا تختلف باختلاف نظرة المركزي والقائمين عليه، فمثلا العراق اشترى قبل عدة أشهر 35 طنا من الذهب، مستفيدا من بيع نفطه بأسعار مرتفعة وتراكم الفائض لديه. السعودية أيضا اتجهت مؤخرا لتراكم الذهب في خزائنها بدلا من العملات الأجنبية. أما لبنان والذي كان يتصدر الدول العربية من حيث الاحتياطي الذهبي فكانت رؤية القائمين على مصرفه المركزي هي التي دفعته إلى تراكم هذا الاحتياطي الكبير مقارنةً بحجم الدولة الصغير، ولربما الخوف من خسائر الليرة اللبنانية أو انهيارها مع أي توتر سياسي هو الدافع الحقيقي لذلك (وقد لعبت هذه السياسة الدور المرجو منها بكفاءة عالية).
مخزون الذهب العالمي، هل ينقص؟
بإجابة قصير، لا لا ينقص! فالذهب كما ذكرت في المقدمة هو سلعة غير مستهلكة، بل هي تدور أو تنتقل من يد إلى يد. فمن يشتري المجوهرات لا يستهلكها بل يرتديها، ويستطيع بيعها متى أراد. ومن يشترى العملات الذهبية أو السبائك فهدفه هو الادخار وليس الاستهلاك، وقد تبقى السبيكة بحوزته أعواما طويلة ثم يبيعها أو يورثها دون أن تنقص ولو حتى غراما واحدا. والبنوك المركزية تشتري الذهب وتراكمه، وقد تبيع جزءا منه دون نقصان. وحتى لو أخذنا الذهب المستخدم في الصناعة (رغم نسبته القليلة) فإن الهواتف الذكية والرقائق الالكترونية التي تستخدم الذهب غالبا ما تتم إعادة تدويرها واستخراج ما فيها من ذهب وفضة وبلاتين لإعادة استخدامه في الصناعة. وأستثني بالطبع ما يستخدم من الذهب في صناعة الأسنان الذهبية والذي لن تتم إعادة استخراجه من أفواه الموتى قبل دفنهم!!
ولو أردنا المقارنة بسلع أخرى فالفرق واضح. سأبدأ بالنفط والذي يستهلك بشكل واضح في الصناعة والنقل، رغم تخزينه لفترة في بعض الدول لكن الهدف في النهاية هو الاستهلاك. والسلع الغذائية فاستهلاكها واضح ولا حاجة لشرحه. وحتى العقارات، فلها نسبة اهتلاك معينة سنويا، وتحتاج إلى إعادة تأهيل كل عشر أو خمسة عشر سنة، بعكس الذهب الذي لا يحتاج إلى أي إضافة أو اهتلاك بل ينتقل دون أي نقصان بالوزن. وهذا ما يجعل منه سلعة مميزة.
الطلب الافتراضي على الذهب
ناقشنا الطلب من الأفراد والصناعة والبنوك المركزية، بقيت الجهة الرابعة التي تستحوذ على نحو 35 ألف طن من الذهب الموجود فوق سطح الأرض وهو "الاستثمارات الخاصة أو private investments والتي تشمل صناديق التحوط وصناديق حيازة الذهب وشركات الاستثمار في مؤشرات الذهب والتي تحتفظ بمخزون ذهبي كغطاء لعقود شراء وبيع المعدن في البورصة.
سأعطي هذه المعلومة قبل تفصيل الطلب الافتراضي: في عام 2013 وهو الذي شهد أول تراجع لسعر أونصة الذهب منذ العام 2000 ، كانت هذه الجهة "الاستثمارات الخاصة" هي الوحيدة التي باعت كميات هائلة من الذهب على عكس الجهات الأخرى فقد اشترت البنوك المركزية في 2013 نحو 409 طنا من الذهب بينما استهلكت الصناعة 408 طنا وازدادت حيازة الأفراد من النقود الذهبية بنحو 900 طن، وقد استخدمت صناعة المجوهرات 2360 طنا، أما صناديق الاستثمار في الذهب فقد باعت 880 طنا من الذهب!! فهل هي من تسببت بتراجع الأسعار 28% في 2013؟
يبلغ حجم سوق تجارة الذهب في البورصات العالمية 20 تريليون دولار يوميا!! وقد ذكرنا أن كامل الذهب المستخرج حتى اليوم تبلغ قيمته 8 تريليونات دولار، هذا على افتراض استخدامه بشكل كامل في التداول (وبالطبع هذا غير ممكن حتى). فمن أين جاءت هذه القيم الهائلة من التداولات؟ بالتأكيد من الرافعة المالية أو ما يسمى leverage والتي تعطيها البنوك وصناديق الاستثمار لعملائها لكي يستطيعون الشراء بكميات أكبر من رأس المال المستثمر بحيث يستطيعون من خلالها مضاعفة أرباحهم، وهو أمر قانوني 100% ومنظم من قبل جهات رقابية كبرى. لكن تأثير هذا الموضوع بالتالي سيكون مضاعفا على سعر الذهب من خلال جعله الطلب مضاعفا. وهو ما يحصل في البورصات العالمية. فمثلا: لماذا قفزت أونصة الذهب 20 دولارا في لحظات بعد إعلان خبر إسقاط الطائرة الماليزية شرقي أوكرانيا؟ صنّاع المجوهرات لن يزيدوا طلبهم بسبب سقوط طائرة، والبنوك المركزية لن تتصرف بشكل لحظي وسريع لزيادة احتياطيها الذهبي، ولا صناعة التكنولوجيا ستتأثر بذلك، ولكن... المضاربون في البورصات والذين يسيطرون على حسابات بـ 20 تريليون دولار (مع الرافعة المالية) يتوقعون أن هذا الخبر سيرفع الطلب على الذهب مستقبلا فيعمدون إلى وضع طلبات شراء بكميات كبيرة مما يؤدي إلى رفع السعر افتراضيا وليس بشكل حقيقي، وهذا يفسّر التراجع الحاد أيضا في السنة الماضية والذي لم يكن مستنداً على عرض حقيقي. فلو تركنا أسواق الذهب تسير بدون "مضاربات" في البورصات فإن الاتجاه الحقيقي للأسعار سيكون نحو الأعلى بشكل دائم نتيجة استمرار الأفراد والبنوك بتخزين الذهب، (اللهم إلّا إذا باعت البنوك المركزية كميات كبيرة من الاحتياطي في فترة قصيرة الأمر الذي قد يضر بالأسعار، وخصوصا أنها تمتلك 30 ألف طن بينما إنتاج المناجم السنوي لا يتعدى 3 آلاف طن، وهو أمر برأيي نادر الحدوث) ولا سيما أيضا وأن استهلاك صناعة المجوهرات والتقنية ينمو بشكل بطيء نوعا ما وهو تابع للزيادة السكانية العالمية.
فكرة الختام
سأختم هذا المقال بفكرة قد تبدو جنونية نوعا ما (هذه الفكرة بالفعل متداولة بين أوساط المحللين)، وهي تقول بأننا يجب أن نضيف إلى تحليلنا كميات الذهب المستخرجة قبل عام 1850 م وهو العام الذي بدأ فيه إحصاء إنتاج الذهب. يقول البعض أن هذه الكميات هي قليلة نسبيا لا تتعدى بضعة أطنان اكتشفت في قبور الفراعنة، وبضعة أطنان أخرى في الدولة الرومانية القديمة على شكل حلي ذهبية، وبعضها في معابد المايا في أميركا اللاتينية. ولكن بعضهم لايزال يؤمن بوجود كنوز لم تكتشف بعد ويستشهد بوجود سفن محملة بمئات الأطنان من الذهب غارقة في المحيطات تنتظر مستكشفها، وهي قد تقلب معادلة الذهب عالميا، فمئة طن إضافية من الذهب تساوي اليوم 4.5 مليار دولار! ولكن كم يا ترى تساوي مدينة "إلدورادو" الذهبية الاسطورية في أميركا الجنوبية والتي دوخّت مكتشفي أوروبا لمئات السنين؟ في حال اكتشافها طبعا!