PDA

View Full Version : النقود والإنتاج



4peace
07-01-2016, 01:27
سبق أن أشرنا في مقال ساابق إلى أن النقود ليست الثروة وإنما هي حق عليها، وأن قيمة النقود مشتقة من حجم الإنتاج وتنوعه، فهل معنى ذلك أن العبرة فقط بما يحدث في الاقتصاد العيني من علاقات إنتاج، وأن النقود وغيرها من الأصول المالية عديمة الأهمية بالنسبة للإنتاج والثروة؟.
الحقيقة هي عكس ذلك تماما، فرغم أن النقود ليست هي الثروة، فإنها مع ذلك - مع غيرها من الأصول المالية الأخرى - من أهم العناصر التي تساعد على زيادة الثروة والإنتاج. فالإنتاج - وما يتولد عنه من ثروة - يتوقف إلى حد كبير على عدد من النظم والوسائل الاقتصادية، وفي مقدمتها نظام النقود والمؤسسات المالية والأصول المالية المختلفة. فقد ساعد وجود هذه النظم والمؤسسات على زيادة القدرة على الإنتاج وتنويعه وتطويره. فكما لاحظ آدم سميث بحق - منذ نهاية القرن الثامن عشر - وتابعه في ذلك كبار الاقتصاديين، تتوقف ثروة الأمم على القدرة على تقسيم العمل، وزيادة حجم الأسواق والمبادلات، وزيادة القدرة على الادخار وإتاحة الفرص أمام المستثمرين والمبدعين لاستخدام المدخرات المتاحة. وفي كل هذا قامت النقود، وبشكل عام الأصول المالية والمؤسسات النقدية والمالية، بتوفير الظروف المناسبة لتحقيق هذه الأمور اللازمة لزيادة ثروة الأمم. فتقسيم العمل والمبادلات لا يتحقق بشكل كاف في غياب نظام نقدي، وكلما تطور شكل النقود وازدادت تحررا انعكس ذلك على زيادة القدرة على تقسيم العمل والمبادلات. فوجود قوة "شرائية عامة" تسمح لكل منتج بأن يتخصص في إنتاج السلعة أو المرحلة الإنتاجية التي يجيدها ويطرحها في السوق مقابل الحصول على النقود التي تمكنه من الحصول على ما يريد من سلع وخدمات معروضة في السوق. كذلك فإن إمكانات الادخار تزداد بشكل كبير كلما توافر للأفراد فرصة للاحتفاظ بقيمة فائض إنتاجهم في شكل قوة شرائية عامة، وليس مجرد مجموعة محددة من السلع، وبحيث يتمكنون من استخدام هذه النقود في المستقبل للحصول على احتياجاتهم من السوق من مختلف السلع والخدمات. وبالمثل فإن توافر هذه المدخرات النقدية وتجميعها في المؤسسات النقدية والمالية يضع أمام المستثمرين إمكانات كبيرة لتنفيذ مشروعاتهم استنادا إلى مدخرات الآخرين. ومع نمو الاستثمارات وتزايدها وبالتالي العوائد المترتبة عليها يجد المدخرون مزيدا من الحوافز على زيادة مدخراتهم. وبطبيعة الأحوال، فإن ازدهار هذه العلاقات لا يتوقف فقط على وجود النقود كأصل مالي، وإنما لابد أن يندرج ذلك ضمن منظومة كاملة الأصول المالية من أوراق تجارية وأوراق مالية ومع توافر عدد من المؤسسات النقدية والمالية الوسيطة التي تتوسط العلاقة بين المدخرين والمستثمرين. فالنقود لا تقوم بدورها كاملا إذا لم يرتبط ذلك بالعديد من الأوراق التجارية من كمبيالات وسندات إذنية وشيكات. وتزداد الثقة في تداول هذه الأوراق التجارية كلما وجدت مؤسسات مالية وسيطة تتعامل فيها وتعطيها، بالتالي، مزيدا من الثقة والاستقرار نتيجة لكبر حجم معاملاتها. بل إننا رأينا أن ظهور النقود نفسه كان تطويرا لهذه الأوراق التجارية التي تقدم إلى البنوك فتعيد إقراضها - مع تقديم ضمانها - وبها أصبحت نفسها نوعا من النقود.

ولا يقتصر الأمر على الأوراق التجارية، بل لابد أن تكتمل الصورة بظهور أشكال الأوراق المالية طويلة الأجل من أسهم وسندات، وغيرها من الأصول المالية. فهذه الأصول المالية تساعد على ظهور المشروعات الكبرى، في شكل شركات المساهمة وغيرها، والتي لم يكن من الممكن بدونها تجميع المدخرات الهائلة، فضلا عن توفير الفرص الاستثمارية الكبرى للأفكار العظيمة. وقد ارتبط ذلك بظهور أشكال قانونية جديدة للشركات والصناديق والمؤسسات المالية الوسيطة من بنوك وشركات تأمين وصناديق معاشات، فضلاً عن مختلف أشكال الأوراق المالية. وهكذا فإن الإنتاج والاقتصاد العيني لا يمكن أن ينمو على النحو المراد ما لم يصاحبه تطور مقابل في الأصول المالية والاقتصاد المالي. على أن النقود وحدها لا تكفي وإنما يجب أن تنظم في منظومة كاملة من الأصول المالية تكملها ويساعد كل شكل منها على تدعيم وتطوير الأشكال الأخرى. ومن هنا أيضا تظهر أهمية النظر إلى النقود باعتبارها أحد - ولكن أهم - عناصر الأصول المالية. وبالمثل فإن دور البنك المركزي والبنوك التجارية لا يمكن أن يكتمل ما لم ينتظم بدوره ضمن تشكيلة كاملة من المؤسسات المالية.

باستثناء الاقتصاد البدائي، فإنه لا قيام لاقتصاد حديث متطور ما لم يستند إلى نظام نقدي حديث ومتطور. ووجود هذا الاقتصاد النقدي الحديث رهن باندماجه في قطاع مالي متطور من المؤسسات والأصول المالية المتنوعة. حقا الاقتصاد العيني - من إنتاج وثروة - هو الأساس، ولكنه بدون اقتصاد مالي متطور فإنه يصعب - أو حتى يستحيل - تقدم الاقتصاد العيني.