PDA

View Full Version : نشأة البنوك المركزية



4peace
07-01-2016, 02:19
لقد جاءت نشأة البنوك المركزية متأخرة بعض الشيء عن نشأة البنوك التجارية التي ظهرت في الدول الأوروبية قبل القرن السابع عشر. ففي بادئ الأمر، كانت البنوك التجارية تقوم بإصدار النقود وتقبل الودائع وتقدم القروض. وفي ضوء بساطة وتواضع النشاط الإقتصادي والمالي في تلك الفترة، لم تكن هنالك حاجة لوجود هيئة إشرافية تتولى رسم سياسة عامة أو تضع القواعد التنظيمية لعمل البنوك. ولكن إفراط بعض هذه البنوك وتوسعها في إصدار النقود أدى إلى حدوث أزمات مالية انعكست سلباً على الاقتصاد، الأمر الذي استدعى وجود مؤسسة تعنى بتنظيم النشاط المصرفي وتنظيم عملية إصدار النقود للتحكم بعرض النقد. وقد أوكلت هذه المهمة في بادئ الأمر إلى أحد البنوك القائمة. ومع تزايد النشاط الإقتصادي وتزايد احتياجات الحكومات للتمويل، وتزايد حركة السلع والأموال عبر الحدود، أصبحت المعاملات المصرفية أكثر تعقيداً، ظهرت الحاجة إلى وجود هيئة من خارج البنوك لتتولى عملية الإشراف على عمل تلك البنوك وتنظيم العمل الصرفي، بالإضافة إلى تنظيم عملية إصدار النقد، فكانت نشأة البنوك المركزية. ومن هنا فإن إنشاء البنوك المركزية إنما جاء للتحكم في عرض النقود وتنظيم إصدارها.
وبعد الحرب العالمية الثانية، ونظراً لضخامة حجم رؤوس الأموال اللازمة لإعادة بناء الإقتصادات المدمرة، تطورت أهداف ومهام البنوك المركزية من دور بسيط يتمثل، كما أسلفنا، في عملية إصدار النقود وتنظيم أعمال البنوك التجارية، إلى دور تنموي دعمته الأدبيات الاقتصادية آنذاك وخاصة تلك الصادرة عن المؤسسات الدولية كالبنك والصندوق الدوليين. فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر السبعينات، راجت فكرة تدخل الدولة في النشاط الإقتصادي، وهيمنت على معظم الدول فكرة التخطيط الإقتصادي لتحقيق التنمية. وقد فرض هذا الواقع، وخصوصاً في الدول النامية، على البنوك المركزية أن تتجاوز في سياستها النقدية هدف الإستقرار النقدي إلى هدف المساهمة في دعم النمو الإقتصادي. ولتحقيق ذلك كان من الطبيعي أن تتوسع البنوك المركزية في تمويل عجوزات الموازنات العامة للحكومات، وأن تلجأ إلى التأثير على السياسات الإئتمانية للبنوك من خلال الإجراءات الإنتقائية لتوجيه الإئتمان نحو القطاعات التي ترغب الدولة بتنميتها وخاصة قطاعات الإنتاج السلعي كالصناعة والزراعة.
وبعد السير في هذا الإتجاه لأكثر من ثلاثة عقود، أثبتت التجربة العملية خطأ هذا النهج، حيث أدى التوسع النقدي المبالغ فيه إلى ارتفاع
معدلات التضخم، والذي أدى بدوره إلى تزايد ظروف عدم اليقين ومن ثم الإضرار بالنمو الإقتصادي. ومن ناحية ثانية، أدت الإجراءات الإنتقائية للسياسة النقدية إلى إساءة استخدام الموارد وإضعاف الإنتاجية، الأمر الذي انعكس سلبياً على معدلات النمو الإقتصادي. وخلاصة القول، أن هذا النهج فشل في تحقيق هدف زيادة معدل النمو الإقتصادي. بينما ساهم في زيادة معدلات التضخم وقاد في نهاية المطاف إلى أزمات مالية عميقة في كثير من دول العالم النامية وخاصة دول أميركا اللاتينية. ولا يخفى على حضراتكم، أن دولنا العربية لم تكن في منأى عن مثل هذه النتائج السلبية.
وقد أملى ذلك تغيراً ملحوظاً في دور البنوك المركزية منذ أوائل الثمانينات، حيث أصبح دور البنك المركزي يتمركز من جديد حول إرساء سياسة نقدية سليمة ذات فاعلية عالية في تحقيق الاستقرار النقدي بالدرجة الأولى. وضمن هذا الإطار، انصرفت البنوك المركزية في بعض الدول المتقدمة التي فصلت وظيفة الإشراف والتنظيم عن بنوكها المركزية، إلى التركيز على استهداف معدل التضخم كهدف رئيس لسياستها النقدية وذلك في ضوء تحرير أسواق رأس المال في العالم. أمّا البنوك المركزية التي تتولى مهام التنظيم والرقابة على البنوك، فتعتبر مسؤولة عن توفير البيئة المصرفية المناسبة وعن ضمان سلامة الأوضاع المصرفية إلى جانب رسم وتنفيذ السياسة النقدية.
وبالنتيجة، فقد أصبحت السياسة النقدية، ورغم مرورها بالعديد من التحولات، تركّز على الاستقرار النقدي ونقصد هنا الاستقرار الداخلي (استقرار المستوى العام للأسعار) والاستقرار الخارجي (استقرار سعر الصرف)، هذا فضلاً عن توفير المتطلبات المالية للنشاط الاقتصادي.