PDA

View Full Version : (4 (تطوير أساسيات علم الاقتصاد



bahoma310
12-01-2016, 12:12
كما أوضحنا سالفً ا، يواجه واضعو النظريات الاقتصادية مشكلتني كبريني؛ فالأشياء التي
ً هو موضوع دراستهم لديها عقول، فضلا َّ عن أن إجراء تجربة موجهة في الاقتصاد أكثر
صعوبة منه في علم طبيعي كالكيمياء. وتفسر هذه الاختلافات إلى حد ما السبب في أن
العلوم التي يطلق عليها صلبة تشتهر باملوضوعية والنجاح أكثر من العلوم املرنة، بما
فيها علم الاقتصاد.
ِ بالرغم من ذلك يتمتع الاقتصادي بميزة هائلة لا يتمتع بها عالم العلوم الطبيعية؛
ً فواضع النظرية الاقتصادية هو نفسه كائن مفكر ذو أهداف واعية. ونظرا لأن لديه رؤية
عضو فاعل في العملية الاقتصادية، يسهل عليه فهم الدوافع واملعوقات التي تواجهها
28
تطوير مبادئ علم الاقتصاد
الأطراف الأخرى الفاعلة في العملية الاقتصادية. وعلى النقيض، فإن فيزيائي الجسيمات
ً ليست لديه أي فكرة عن «كيف يكون الحال إذا كان كواركا»، ولذا لا بد أن يعتمد
الفيزيائي حصريٍّا على التقنيات التجريبية املألوفة للتعرف على سلوك الكواركات.
سابقً ا في هذا الدرس، ركزنا على الاختلاف املهم بني الفعل املتعمد والسلوك العفوي،
لأن هذا الاختلاف هو أساس تطوير املبادئ الاقتصادية املفيدة. واملبادئ الاقتصادية التي
ً سنرسيها في هذا الكتاب كلها تضمينات منطقية لحقيقة أن هناك أشخاصا آخرين ذوي
عقول يحاولون تحقيق أهدافهم. بعبارة أخرى، إذا قررنا نحن علماء العلوم الاجتماعية
ً الالتزام بالنظرية التي تذهب إلى أن هناك عقولا ً أخرى تعمل في العالم — تماما مثلما
ً يستطيع كل واحد منا اختبار إدراكه العقلي اختبار ً ا مباشرا — فسوف تتمخض عن هذه
النظرية معلومات أخرى في صورة نتائج مترتبة عليها. وعلى الأرجح ستفاجأ في الدرس
الثالث عندما نوضح أن الكثري من علم الاقتصاد يخضع للعبارة البسيطة التي تقول إن
«جون دو يتصرف لتحقيق غاية يفكر فيها». أما الآن، فلن نعرض لأي من هذه النتائج،
ً لأن عليك أولا أن تفهم بالضبط ما ستقوم به في الدرس الثالث.
ً وبدلا من النظر إلى علمي الفيزياء أو الكيمياء للاستفادة منهما في وضع املبادئ
الاقتصادية املفيدة، يمكننا الاستعانة بعلم الهندسة من أجل الحصول على نتيجة أفضل.
ففي الهندسة القياسية (أي الإقليدية) نبدأ ببعض التعريفات والافتراضات الأساسية
ف كلا من «النقطة» و«الخط»، ونشرح
ٍّ
ً التي تبدو معقولة إلى حد بعيد. فمثلا ّ : نحن نعر
معنى «الزاوية» التي تشكلت نتيجة تقاطع خطني أحدهما مع الآخر، وهكذا.
وما إن تصبح لدينا التعريفات والافتراضات الأساسية، يمكننا استخدامها للبدء
في وضع «النظريات»، وهي كلمة معبرة تشري إلى «الاستنتاج املنطقي» للنتائج الخاصة
بتعريفاتنا وافتراضاتنا الأساسية. وأي كتاب في الهندسة يبدأ بأهم النظريات الأساسية،
ً ثم يستخدم كل نتيجة جديدة لاستنتاج شيء أكثر تعقيد ً ا. فمثلا، هناك نظرية مبسطة
ً تقول: «إذا رسمنا أربعة خطوط تشكل مستطيلا، فيمكننا رسم خط خامس يقسم
املستطيل إلى مثلثني متطابقني.» وحاملا تثبت صحة هذه النظرية (املبسطة للغاية)،
ً يمكننا أن نضيفها إلى صندوق أدواتنا، بل يمكن لنظريات لاحقة أكثر تعقيدا استخدام
هذه النظرية في إحدى خطواتها.
ً يتشابه منهج علم الهندسة تماما مع ما سنفعله في هذا الكتاب من أجل وضع
ّ املبادئ الاقتصادية الأساسية وتطويرها. في الدرس التالي، سنعرف بعض املفاهيم (مثل
29
دروس مبسطة في الاقتصاد
الربح والتكلفة)، ونبني علاقتها بافتراضنا الأساسي الذي يقول إن الأحداث في عالم
الاجتماع تكون مدفوعة بالأفعال املتعمدة. ومع الانتقال من درس إلى آخر سنواصل
إضافة رؤى جديدة من خلال البناء على الدروس السابقة وتقديم سيناريوهات جديدة
يمكننا معها تطبيق النتائج التي توصلنا إليها في وقت سابق.
هناك ملحوظتان مهمتان يجدر الالتفات إليهما بشأن املثال الخاص بالهندسة؛
ً أولا: سيكون من الهراء أن تطلب من عالم رياضيات أن «يختبر» النظريات املوجودة في
كتاب عن الهندسة. سندلل على ذلك بنظرية فيثاغورث؛ أشهر الاستنتاجات الهندسية
على الأرجح. تقول النظرية إنه إذا كان لديك مثلث قائم الزاوية، وأعطيت كل ضلع من
أضلاع املثلث حرفًا، فستحصل على املعادلة التالية:
أ
ب
ج
أ٢ + ب٢ = ج٢
حاملا ترى برهانًا على نظرية فيثاغورث، ستتأكد من أنها نظرية صحيحة. ومن باب
التسلية، يمكنك استخدام مسطرة وفرجار و«اختبار» صحة النظرية على مثلث ترسمه
ً أنت على ورقة. لكنك ستجد أنها ليست دقيقة تماما من الناحية العملية؛ فربما تجد
الجانب الأيمن من املعادلة يساوي ١٠٫٢ سنتيمترات، بينما الجانب الأيسر منها يساوي
ْ ١٠٫١ سنتيمترات. ومع ذلك، إذا حصلت على «دحض» كهذا للنظرية، وأفصحت به أمام
ً عالم رياضيات، فسريده إلى أن املثلث الذي كنت تقيسه لم يكن قائم الزاوية تماما (ربما
كانت زاويته القائمة تساوي ٨٩٫٩ درجة)، وأن املسطرة التي كنت تستخدمها لقياس
ً أطوال الأضلاع لم تكن دقيقة، لأنها لم تكن مستوية تماما، وأنك كنت تقدر أطوال
ٍّ الأضلاع بعينيك إلى حد ما.
30
تطوير مبادئ علم الاقتصاد
املهم هنا أن عالم الرياضيات يعلم أن نظرية فيثاغورث صحيحة، لأنه يستطيع
إثباتها باستخدام استنتاج منطقي متسلسل بناءً على الافتراضات الأولية لا سبيل لدحضه.
وهذا تشبيه جيد بكيفية استنتاج املبادئ أو القوانني الاقتصادية. فنحن نبدأ ببعض
ً التعريفات وافتراض أن هناك عقلا يعمل، ثم نبدأ الاستنتاج املنطقي لنتائج أخرى. وما
إن نبرهن على صحة مبدأ أو قانون اقتصادي ما، يمكننا أن نحمله في جعبتنا لنستخدمه
في املستقبل لإثبات قاعدة أخرى أكثر صعوبة. وإذا سأل سائل هل البيانات «تؤكد أو
تدحض» قاعدتنا الاقتصادية، يمكننا أن نجيب بأن السؤال لا معنى له. فالدحض الظاهر
للقاعدة الاقتصادية لا يعني شيئًا سوى أن الفرضيات الأولى لم تتحقق. على سبيل املثال:
سنتعلم في الدرس الحادي عشر قانون الطلب الذي يقول: «في ظل تساوي كل العوامل
الأخرى، يؤدي ارتفاع الأسعار إلى انخفاض كمية الطلب على السلع والخدمات.» والآن،
إذا حاولنا «اختبار» صحة قانون الطلب، فسنجد ولا شك مواقف تاريخية حدث فيها أن
ارتفع سعر سلعة ما، ومع ذلك زاد الطلب عليها. وهذه الحقيقة لا تدحض قانون الطلب
ً كلية، لأن عالم الاقتصاد سيخلص إلى أن: «العوامل الأخرى قطعا لم تكن متساوية.»
والآن ننتقل إلى امللحوظة املهمة الثانية التي ينبغي أن تستخلصها من نقاشنا عن
ا
الهندسة: عندما يُ ً ستنتج أمر ما استنتاجا منطقيٍّا من تعريفات وفرضيات سابقة (أحيانً
تسمى مسلَّمات)، فإن النظرية الناتجة ربما لا تزال تتضمن معلومات مهمة ومفيدة
عن العالم الحقيقي. ونحن نؤكد على هذه النقطة لأن كثريًا من الأفراد يظنون أن أي
حقل دراسي يمكن أن يكون «علميٍّا» ويعطينا «معلومات عن العالم الواقعي» فقط إذا
أمكن تفنيد فرضياته — نظريٍّا على الأقل — بالتجارب أو القياسات. من الواضح أن
ً هذا الشرط ليس موجودا في علم الهندسة، ومع ذلك سيتفق معي الجميع على أن دراسة
ً الهندسة مفيدة حتما. فاملهندس الذي ينوي بناء جسر سيقوم بهذه املهمة على نحو
أفضل إذا كان قد درس من قبل البراهني الاستدلالية املنطقية في أحد صفوف الهندسة،
على الرغم من أن كل النظريات املوجودة في الكتب ليست سوى تحويل للمعلومات التي
َّ كانت مضمنة بالفعل في الفرضيات الأولية.
هكذا هو حال املبادئ والقوانني الاقتصادية التي يشتمل عليها هذا الكتاب (أو
هكذا نأمل!) لن تحتاج إلى اختبار املعلومات الواردة فيه لتتأكد من أنها صحيحة، لأن
أي دحض ظاهر سيعني ببساطة أن الفرضيات املستخدمة في البرهان لم تكن موجودة
وقت «الاختبار». ومع ذلك ستجد أن اكتساب هذه املعرفة النظرية من خلال التفكر
31
دروس مبسطة في الاقتصاد
والاستدلال املنطقي سيسمح لك بفهم العالم الحقيقي بكل تعقيده. وستجيد التبحر في
علم الاقتصاد، وفهم قوانينه حاملا تتقن الدروس املنطقية (غري القابلة للاختبار مع ذلك)
الواردة في هذا الكتاب.
خلاصة الدرس
• يصدر الفعل املتعمد عن كائن واع ذي عقل يحاول تحقيق هدف ما، بينما
يشري السلوك العفوي إلى حركات تحدث في العالم املادي بفعل الطبيعة ليس
إلا، وليست ناتجة عن نوايا كائن مفكر.
• تشمل العلوم الطبيعية مجالات مثل الفيزياء والكيمياء وعلم الأرصاد الجوية،
وكلها تدرس العالم الطبيعي وتحاول استنتاج «قوانني الطبيعة». أما العلوم
الاجتماعية فتشمل مجالات مثل علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد،
وتدرس الجوانب املختلفة للسلوك البشري، بما في ذلك تعاملاتنا بعضنا مع
بعض في املجتمع.
• تضع العلوم الطبيعية نظريات تحاول التكهن بسلوك الأشياء غري العاقلة بمزيد
من الدقة. وسر نجاح هذه العلوم أن تلك الأشياء تبدو خاضعة ملجموعة ثابتة
من القواعد البسيطة إلى حد ما، ولأن بإمكان علماء العلوم الطبيعية في كثري
من الحالات إجراء تجارب منهجية موجهة ومحكومة. أما في العلوم الاجتماعية
— بما فيها علم الاقتصاد — فموضوعات دراستها عاقلة، ومن ثم يكون إجراء
َّ التجارب املوجهة املحكومة أكثر صعوبة. وعند وضع املبادئ الاقتصادية، يعتمد
الاقتصادي على تجربته فيما يتعلق بالفعل املتعمد ويستنبط الاستنتاجات
املنطقية منها. ومن هذا املنطلق، يكون الاقتصاد أقرب إلى الهندسة منه