bahoma310
04-13-2017, 13:15
ملاحظاتي موجهة إلى القضايا التي أثارها تحليل البروفيسور كيرزنر،( ) وليس إلى الاقتراحات المختلفة المطروحة حالياً حول سياسة صناعية قومية، إلا أنني آمل أن تكون لها علاقة كخلفية لتحليل تلك الاقتراحات. كذلك، وما دام أنني أعتزم الإعراب عن مخالفتي لبعض من النقاط التي أثارها البروفيسور كيرزنر، دعوني أؤكد بأنني أتعاطف كلياً مع نقطته الأساسية، ألا وهي: تشتت المعلومات بين وحدات اتخاذ القرار الاقتصادية والتي يطلق عليها "مشكلة المعرفة المتعلقة بهايك"، والقضية الناتجة عنها والتي تتمثل في نقل المعلومات بين مختلف الوحدات.
كثير من الأبحاث التي قمت بها منذ خمسينات القرن الماضي كانت مركّزة حول قضايا اقتصاديات الرفاه، من منظور معلوماتي. إن نظريات هايك (وقد حضرت صفوفه في جامعة لندن للاقتصاد خلال العام الأكاديمي 1938-1939) قد لعبت دوراً رئيسياً في التأثير على تفكيري وقد اعترفت بذلك التأثير. بيد أن آرائي تأثرت أيضاً من قبل أسكار لانج (جامعة شيكاغو 1940-1942) وكذلك لودفيغ فون ميزس، والذي شاركت في ندواته في جنيف خلال الفترة 1938-1949.
والآن، توجد أبحاث كثيرة في هذا الميدان.( ) إن دراسة متأنية لهذه الأبحاث سوف ترينا، في اعتقادي، بأن الفقرات الافتتاحية في بحث البروفيسور كيرزنر (والقائلة بأن درس هايك لم يُستوعَب قط من قبل علماء اقتصاد الرفاه)( ) لا ينطبق على علماء الرفاه في مجموعهم في زمننا الحالي، بغض النظر عما إذا كان ذلك ينطبق أو لا ينطبق على الأبحاث السابقة في هذا الميدان.
دعوني أوضح ها هنا بأنني لا أعتزم أن أجادل حول مزايا أو مساوىء ما يمكن أن يشار إليه بـ"التخطيط المركزي" أو"السياسة الصناعية". وبدلاً من ذلك، فإن هدفي من ذلك هو إدخال بعض من الشك فيما يتعلق بالحجج المبسطة التي تستخدم في بعض الأحيان في هذا الحقل. أود القول بأن الورقة التي أمامنا—وعلى الرغم من كثير من رؤاها الثمينة—لا تقدم أساساً كافياً لتكوين حكم حول المزايا المعزوة إلى "السوق الحرة"، أو "التخطيط المركزي"، أوغيرهما من أشكال التدخل الحكومي في العملية الاقتصادية. (هذا هو حكم على غرار الأحكام القضائية الاسكتلندية: ليس "مذنباً"، وليس "غير مذنب"، ولكن: "غير مثبت على أنه مذنب")! الحالة هي كذلك لأسباب عدة، بما في ذلك غموض التعابير المستخدمة، والافتراضات الكامنة التي تصور "البيئة الاقتصادية الكلاسيكية" (والتي ستحدد أدناه)، ومسألة الحوافز، والأحكام القيمية التي تتجاوز معيار الكفاءة.
إن تعابير مثل "التخطيط المركزي" و"السوق الحرة" لهما تفسيرات كثيرة. وعند تحليل مزايا ونقاط ضعف عملية السوق، من الأمور المهمة التمييز بين الأسواق الحرة التامة، وبين الأسواق الاحتكارية أو مجموعة من قلة من الاحتكارات، وغيرهما من الأسواق غير الحرة بالمعنى التام للتعبير. وعلى سبيل المثال، ففي صناعة تتميز بتناقص التكاليف تدريجيا، لن يستطيع البقاء في السوق سوى قلة من الشركات، على الرغم من حرية الدخول للسوق. مثل هذا السوق يمكن تسميته بـ"الحرة"، ولكنه يُميِّلُ احتكار القلة وليس سوق منافسة حقيقية.
إن نظرية اقتصاد الرفاه المعروفة تؤكد نظرية باريتو بالنسبة للكفاءة الأمثل لتوازن قائم في سوق تنافسية كاملة. ولكن، ليست هنالك أسس نظرية للجزم بأن أسواق الاحتكار أو أسواق احتكار القلة تؤدي إلى تخصيص كفءٍ للموارد المتاحة. وفي الحقيقة، فإن التحليل الأولي يظهر بأن أسعار الاحتكار الموحدة أو الأسعار الموحدة في إطار احتكار القلة هما، بشكل عام، أسعار غير كفؤة بمعايير باريتو.( ) يضاف إلى ذلك أنه في ظل ظروف تتسم بالمردود المتزايد، فإن توازناً تنافسياً تاماً، هو بشكل عام مستحيل التحقيق، ذلك لأن تعظيم الربح في ظل سقف محدد للأسعار سوف يستدعي إنتاجاً يتراوح بين الصفر أو إنتاجاً غير محدود. لذا، فإن من الصعب رؤية كيفية تبرير كفاءة السوق الحرة بوجود مردود متعاظم، سواءً تم تفسير المصطلح الأخير بالمنافسة الكاملة، أو، مجرد حرية الدخول.
إن الصعوبات المصاحبة للمردود المتعاظم تشكل فقط حالة خاصة من بين مشكلة أكبر وأهم، إذ إن نظرية ضمان الكفاءة الأمثل لتوازن قائم في سوق تنافسية تفترض غياب العوامل الخارجية، وتستبعد كذلك السلع العامة.( )
يضاف إلى ذلك، كما رأينا أعلاه، فإن هنالك ظروفاً (مثل المردودات المتزايدة) حيث لا يمكن لأية مجموعة من الأسعار أن تحقق توازناً بين العرض والطلب؛ يستدل من ذلك بأن تنافساً متوازناً تاماً هو أمر مستحيل المنال. وهكذا، ومن أجل ضمان إمكانية وجود أسعار متوازنة—وتعرف من الناحية التقنية الفنية بوجود توازن تنافسي كامل—وكذلك التوازن التنافسي الكامل والأمثل، فإن النظريات ذات العلاقة تقدم مجموعة من الفرضيات، مستبعدةً عوامل مثل الآثار الخارجية، والسلع العامة، والمردودات المتزايدة، وتلك الأصناف من السلع العامة غير القابلة للقسمة، وغير ذلك. وعندما تستوفى جميع هذه المعطيات (مع استبعاد العوامل المقلقة)، فإننا نتحدث عن اقتصاد كلاسيكي أو مناخ كلاسيكي. لذا، فإن النظريات التي تضمن تحقيق التوازن التنافسي الأمثل تفترض وجود بيئة كلاسيكية.
من الناحية العملية، مع ذلك، فإن المرء كثيراً ما يواجه بيئات غير كلاسيكية. التلوث هو مثال على عامل خارجي سلبي مهم، بينما المعلومات المستقاة من الاختراعات الجديدة أو السرور الذي ينشأ من المؤلَّفات الموسيقية تدلل على عوامل خارجية إيجابية أو سلع عامة. الدفاع الوطني هو مثال آخر على سلعة عامة بالغة الأهمية. الجسور والسدود تجسد عدم القابلية للقسمة، وهنالك أمثلة عديدة على اقتصاديات الحجم—والمعروفة بالمردود المتصاعد (للحجم). إنني لا أعرف أي أساس للادعاء بأنه، في مثل هذه الحالات، فإن عمليات السوق الحرة (بغض النظر عن كيفية وصفها) توفر تخصيصاً مثالياً للموارد.
لقد اتضح من عدد من الدراسات (ماونت وريتر 1974؛ أوسانا 1978؛ هورويتز 1977) بأنه في البيئات الكلاسيكية، فإن آلية التسعير التنافسية المثالية تستخدم حداً أدنى من المساحة لنقل رسالتها؛ أي أنها تستخدم الحد الأدنى من المتغيرات لنقل المعلومات بين الوحدات الاقتصادية. وهذا يؤكد نظرية هايك فيما يتعلق بالكفاءة الإعلامية لآلية الأسواق. ولكن، فقد تبين بالأمثلة (هورويتز 1977؛ كالساميليا 1977) بأنه في غياب التحدب لسلسلة احتمال الإنتاج،( ) فقد يكون مستحيلاً إيجاد أية آلية لامركزية ذات كفاءة عند استخدام مساحة ذات أبعاد محدودة لنقل رسالتها.
وبالإضافة إلى الصعوبات في تحقيق الكفاءة في البيئات غير الكلاسيكية، علينا أن نلاحظ بأن الكفاءة هي واحدة فقط من بين المعايير الممكنة، والتي تبنى على أساسها الأحكام التقييمية حول النظم الاقتصادية. بعض الناس قد يكونون مستعدين للتضحية بالكفاءة في سبيل المساواة؛ فبالنسبة لهم، فإن حقيقة أن عملية السوق تحقق الكفاءة، قد تكون غير كافية—حتى لو افترضنا وجود بيئة أو مناخ كلاسيكي. بطبيعة الحال، فإن هذا التوجه لا يحتاج بالضرورة إلى التخلي عن عملية السوق، بل ربما تعزيز ذلك بوسائل مثل الضرائب والدعم المالي. وهكذا، يمكن وضع دور للحكومة على أسس تقييمية، حتى لو تم الاعتراف بأن التدخل الحكومي سوف يؤدي إلى تخفيض كفاءة النظام الاقتصادي.
كما إنني أرى مشكلة في ترويج حجج البروفيسور كيرزنر حول النظرية أعلاه، فيما يتعلق بالتوازن التنافسي الأمثل. إن الورقة أمامنا جازمة في تجنب الاعتماد على الأسواق التي تكون بالفعل في حالة توازن. ولكن في الافتراضات الكلاسيكية، فقط يكون التوازن التنافسي هو الذي يضمن الوضع الأمثل. لذا، فإن أفضل ما يمكن قوله بالنسبة لحالات فقدان التوازن أنها قد تتجه نحو التوازن. وفي الحقيقة، فإن دراسة اشتركت في كتابتها مع أرو وبلوك عام 1959، حددتْ مجموعة من الحالات، حيث كان مثل هذا التوجه نحو التوازن قائماً. ولكن أبحاثاً لاحقة (على سبيل المثال بحث سكارف 1960) قد كشفت النقاب عن أن هذا التوجه ليس موجوداً دائماً، حتى في حالات السوق التنافسية المثالية. وفي جميع الأحوال، فإن من الصعب رؤية كيف يمكن في غياب قوى الاستقرار الادعاء نظرياً بأن الأسواق تؤدي إلى الكفاءة.( )
إن التأكيد الأساسي في دراسة كيرزنر هو حول ما يسميه المؤلف "مشكلة المعرفة الأساسية." وإلى الحد الذي يتجاوز فيه هذا القول تشتت المعرفة وفق هايك، فإن "قضية المعرفة الأساسية" هذه تبدو، ببساطة، من منطلق أن معظم القرارات—سواءً من قبل المخططين أو الشركات أو الأفراد—لا بد أن تتم دون توافر معلومات كاملة ودقيقة.( ) لا يوجد أي خلاف حول هذه النقطة. ولكن بعض المناقشات على ما يبدو توحي بأن مثل هذا الوضع من عدم اليقين يجعل اتخاذ أي سلوك عقلاني مستحيلاً منطقياً.
إنني لا أستطيع الاتفاق على ما تقدم. هنالك بالفعل نظريات متطورة حول السلوك العقلاني في حالات عدم اليقين، بما في ذلك نظرية البحث. إن نظرية القرار الإحصائية هي فقط واحدة من فروع هذا العلم. ولكن حتى إذا قبلنا بالصعوبات العملية لسلوكيات البحث الأمثل، فإن المرء يجد نفسه منساقاً إلى إطار ما يسمى بـ"العقلانية المقيدة" (سايمون 1972؛ رادنر 1975).
إنني، بطبيعة الحال، أوافق على أن الناس كثيراً ما يتصرفون من منطلق قناعات ليست صحيحة في الواقع. وفي أفضل الحالات، يكون أملنا أن يكون التصرف عقلانياً في ضوء التنبؤ بالمستقبل وليس من قبيل استرجاع الماضي. ولكن هذه المصاعب تواجه كل إنسان وليس القائمين على التخطيط وحدهم. صحيح أنه إذا كانت معلومات المخطِّط أو قناعاته مستندة إلى نقل غير كامل، فإن ذلك سوف يشكل مصدراً إضافياً للخطأ. ولكن تلك، مرة أخرى، هي مشكلة هايك!
وكما ذكر أعلاه، فإن آلية السوق تخفِّض بالفعل مساحة الرسالة المطلوبة، بيد أن ادعاءاتها قائمة على افتراض وجود بيئة كلاسيكية. ففي مناخات غير كلاسيكية، وحيث هنالك قيم مهمة غير قيمة الكفاءة في الأداء، فإن بالإمكان تقديم حجة بعدم كفاية عمليات السوق، وربما في صالح دور حكومي. ولكن لا يجوز أن يعتبر ذلك مرادفاً للتخطيط الحكومي. وفي الحقيقة، فإن هذا الدور يمكن أن يقتصر على تقدمة وتنفيذ ما يمكن تسميته بـ"قوانين اللعبة". وبالأخص، قد يشمل ذلك خلق حقوق ملكية من خلال حقوق نشر أو براءة ملكية أو اختراع. إن خلق مثل هذه الحقوق يشكل تدخلاً حكومياً في عملية السوق الحر، ولكن لا يشكل ما أسميه بـ"التخطيط المركزي". والصيغة الأخيرة ربما يجب أن تُخصَّص لنمط من التدخل الذي يمكن تسميته بـ"الاستهداف الجزئي"، والتي تكون السياسة الصناعية أو مراقبة الأسعار أو التقنين أمثلة عليها، والتي تتخذ الحكومات من خلالها قرارات تتصل بالإنتاج، والانفاق، وأسعار سلع معينة أو مجموعة من السلع.
ومع ذلك، فإن من المهم التمييز بين التخطيط المركزي الشمولي (الذي تجري محاولته في الاتحاد السوفييتي) من ناحية، وعناصر من تخطيط تلحق باقتصاديات السوق الحرة (كما نراه عادة في البلدان الغربية) من ناحية أخرى. هكذا، يجب أن نعترف بأن ما بين الاقتصاد الحر والاقتصاد المركزي الشمولي (الاستهداف الجزئي) مساحة من الاحتمالات الممكنة، بعضها يشمل استهدافاً جزئياً، وبعضها الآخر تدخلاً حكومياً بقوانين اللعبة (وبدون عنصر التخطيط أو الاستهداف الجزئي).
شخصياً، فإنني أتفق في الرأي مع البروفيسور كيرزنر بأن دولة كبيرة حديثة هي فوق الحجم الأمثل حتى تكون وحدة قابلة للاستهداف الجزئي. أسباب قناعتي—بالإضافة إلى حقل المعرفة الذي أشار إليه البروفيسور كيرزنر—لها علاقة بإحباط الحوافز الشخصية نحو الإبداع أو الكفاءة،( ) بسبب نمط تخطيط جزئي، كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي أو الصين. ولكن ذلك لا يعني بأن النظام الحر يشكل حلاً عالمياً شاملاً.
وبالأخص، ما زال يتوجب تقديم الدليل (كما هو الادعاء في الصفحة 417) بأن "التنافس بين الشركات من أحكام ومجالات مختلفة تتجه نحو إظهار الحد الأمثل لمثل ذلك (التنظيم المركزي)."
ففي مناخ كلاسيكي ربما يكون ذلك صحيحاً، ولكن من حق المرء أن يتساءل، على سبيل المثال، عما إذا كان التوجه نحو الاندماج الذي يجري حالياً في الولايات المتحدة من شأنه منطقياً أن يدفع الاقتصاد إلى مزيد من الاقتراب من الأداء الأمثل. إذا كانت النتيجة هي الاحتكار، فإن عدم الكفاءة سوف تتبع.
دعوني أقدم اعتراضاً آخر حول الكلمة الختامية في دراسة كيرزنر، والقائلة بأن دعاة السياسة الصناعية أو التخطيط المركزي، إنما ينطلقون بالضرورة من انعدام الإدراك بمشكلة المعرفة (دعاتها المخلصون غير الواعين كلياً لمشكلة المعرفة).( ) في رأيي، فإن انعدام تقدير أهمية الحوافز يشكل مسألة أكثر خطورة. (الصين هي مثل على اقتصاد يدار مركزياً، وقد اعترفَتْ بأهمية الحوافز وبمنافع الإدارة اللامركزية). إن بعض الدعاة يرون السياسة الصناعية كحل يأتي في المرتبة الثانية، بالنظر للعيوب القائمة في الأسواق المحلية والدولية، وعلى الرغم من الصعوبات الناشئة عن مشكلة المعرفة. يستطيع المرء أن يختلف مع الرأي القائل بأن هذه قضية تأتي في المرتبة الثانية، ولكن دون أن يُتهم دعاتها بعدم الوعي بمثالبها.
إن قضية الدور المناسب للأسواق وللتدخل الحكومي هي قضية معقدة، ومن وجهة نظري، فإن الحل لا يكمن في أيّ من الطرفين المتعارضين. التحليل الموضوعي، والذي تُعتبر دراسة البروفيسور كيرزنر مساهمة مهمة لها، يُظهر المزايا والنواقص للحلول القائمة على طرفي نقيض؛ إنه يشير إلى نقاط القوة في اقتصاد السوق، مثلما يشير إلى تلك النواقص التي تبرر البحث عن وسائل مؤسسية إضافية تشمل تدخل القطاع العام. والأرجح بأن الأجوبة لن تسر الأيديولوجيين في كلا النقيضين.
كثير من الأبحاث التي قمت بها منذ خمسينات القرن الماضي كانت مركّزة حول قضايا اقتصاديات الرفاه، من منظور معلوماتي. إن نظريات هايك (وقد حضرت صفوفه في جامعة لندن للاقتصاد خلال العام الأكاديمي 1938-1939) قد لعبت دوراً رئيسياً في التأثير على تفكيري وقد اعترفت بذلك التأثير. بيد أن آرائي تأثرت أيضاً من قبل أسكار لانج (جامعة شيكاغو 1940-1942) وكذلك لودفيغ فون ميزس، والذي شاركت في ندواته في جنيف خلال الفترة 1938-1949.
والآن، توجد أبحاث كثيرة في هذا الميدان.( ) إن دراسة متأنية لهذه الأبحاث سوف ترينا، في اعتقادي، بأن الفقرات الافتتاحية في بحث البروفيسور كيرزنر (والقائلة بأن درس هايك لم يُستوعَب قط من قبل علماء اقتصاد الرفاه)( ) لا ينطبق على علماء الرفاه في مجموعهم في زمننا الحالي، بغض النظر عما إذا كان ذلك ينطبق أو لا ينطبق على الأبحاث السابقة في هذا الميدان.
دعوني أوضح ها هنا بأنني لا أعتزم أن أجادل حول مزايا أو مساوىء ما يمكن أن يشار إليه بـ"التخطيط المركزي" أو"السياسة الصناعية". وبدلاً من ذلك، فإن هدفي من ذلك هو إدخال بعض من الشك فيما يتعلق بالحجج المبسطة التي تستخدم في بعض الأحيان في هذا الحقل. أود القول بأن الورقة التي أمامنا—وعلى الرغم من كثير من رؤاها الثمينة—لا تقدم أساساً كافياً لتكوين حكم حول المزايا المعزوة إلى "السوق الحرة"، أو "التخطيط المركزي"، أوغيرهما من أشكال التدخل الحكومي في العملية الاقتصادية. (هذا هو حكم على غرار الأحكام القضائية الاسكتلندية: ليس "مذنباً"، وليس "غير مذنب"، ولكن: "غير مثبت على أنه مذنب")! الحالة هي كذلك لأسباب عدة، بما في ذلك غموض التعابير المستخدمة، والافتراضات الكامنة التي تصور "البيئة الاقتصادية الكلاسيكية" (والتي ستحدد أدناه)، ومسألة الحوافز، والأحكام القيمية التي تتجاوز معيار الكفاءة.
إن تعابير مثل "التخطيط المركزي" و"السوق الحرة" لهما تفسيرات كثيرة. وعند تحليل مزايا ونقاط ضعف عملية السوق، من الأمور المهمة التمييز بين الأسواق الحرة التامة، وبين الأسواق الاحتكارية أو مجموعة من قلة من الاحتكارات، وغيرهما من الأسواق غير الحرة بالمعنى التام للتعبير. وعلى سبيل المثال، ففي صناعة تتميز بتناقص التكاليف تدريجيا، لن يستطيع البقاء في السوق سوى قلة من الشركات، على الرغم من حرية الدخول للسوق. مثل هذا السوق يمكن تسميته بـ"الحرة"، ولكنه يُميِّلُ احتكار القلة وليس سوق منافسة حقيقية.
إن نظرية اقتصاد الرفاه المعروفة تؤكد نظرية باريتو بالنسبة للكفاءة الأمثل لتوازن قائم في سوق تنافسية كاملة. ولكن، ليست هنالك أسس نظرية للجزم بأن أسواق الاحتكار أو أسواق احتكار القلة تؤدي إلى تخصيص كفءٍ للموارد المتاحة. وفي الحقيقة، فإن التحليل الأولي يظهر بأن أسعار الاحتكار الموحدة أو الأسعار الموحدة في إطار احتكار القلة هما، بشكل عام، أسعار غير كفؤة بمعايير باريتو.( ) يضاف إلى ذلك أنه في ظل ظروف تتسم بالمردود المتزايد، فإن توازناً تنافسياً تاماً، هو بشكل عام مستحيل التحقيق، ذلك لأن تعظيم الربح في ظل سقف محدد للأسعار سوف يستدعي إنتاجاً يتراوح بين الصفر أو إنتاجاً غير محدود. لذا، فإن من الصعب رؤية كيفية تبرير كفاءة السوق الحرة بوجود مردود متعاظم، سواءً تم تفسير المصطلح الأخير بالمنافسة الكاملة، أو، مجرد حرية الدخول.
إن الصعوبات المصاحبة للمردود المتعاظم تشكل فقط حالة خاصة من بين مشكلة أكبر وأهم، إذ إن نظرية ضمان الكفاءة الأمثل لتوازن قائم في سوق تنافسية تفترض غياب العوامل الخارجية، وتستبعد كذلك السلع العامة.( )
يضاف إلى ذلك، كما رأينا أعلاه، فإن هنالك ظروفاً (مثل المردودات المتزايدة) حيث لا يمكن لأية مجموعة من الأسعار أن تحقق توازناً بين العرض والطلب؛ يستدل من ذلك بأن تنافساً متوازناً تاماً هو أمر مستحيل المنال. وهكذا، ومن أجل ضمان إمكانية وجود أسعار متوازنة—وتعرف من الناحية التقنية الفنية بوجود توازن تنافسي كامل—وكذلك التوازن التنافسي الكامل والأمثل، فإن النظريات ذات العلاقة تقدم مجموعة من الفرضيات، مستبعدةً عوامل مثل الآثار الخارجية، والسلع العامة، والمردودات المتزايدة، وتلك الأصناف من السلع العامة غير القابلة للقسمة، وغير ذلك. وعندما تستوفى جميع هذه المعطيات (مع استبعاد العوامل المقلقة)، فإننا نتحدث عن اقتصاد كلاسيكي أو مناخ كلاسيكي. لذا، فإن النظريات التي تضمن تحقيق التوازن التنافسي الأمثل تفترض وجود بيئة كلاسيكية.
من الناحية العملية، مع ذلك، فإن المرء كثيراً ما يواجه بيئات غير كلاسيكية. التلوث هو مثال على عامل خارجي سلبي مهم، بينما المعلومات المستقاة من الاختراعات الجديدة أو السرور الذي ينشأ من المؤلَّفات الموسيقية تدلل على عوامل خارجية إيجابية أو سلع عامة. الدفاع الوطني هو مثال آخر على سلعة عامة بالغة الأهمية. الجسور والسدود تجسد عدم القابلية للقسمة، وهنالك أمثلة عديدة على اقتصاديات الحجم—والمعروفة بالمردود المتصاعد (للحجم). إنني لا أعرف أي أساس للادعاء بأنه، في مثل هذه الحالات، فإن عمليات السوق الحرة (بغض النظر عن كيفية وصفها) توفر تخصيصاً مثالياً للموارد.
لقد اتضح من عدد من الدراسات (ماونت وريتر 1974؛ أوسانا 1978؛ هورويتز 1977) بأنه في البيئات الكلاسيكية، فإن آلية التسعير التنافسية المثالية تستخدم حداً أدنى من المساحة لنقل رسالتها؛ أي أنها تستخدم الحد الأدنى من المتغيرات لنقل المعلومات بين الوحدات الاقتصادية. وهذا يؤكد نظرية هايك فيما يتعلق بالكفاءة الإعلامية لآلية الأسواق. ولكن، فقد تبين بالأمثلة (هورويتز 1977؛ كالساميليا 1977) بأنه في غياب التحدب لسلسلة احتمال الإنتاج،( ) فقد يكون مستحيلاً إيجاد أية آلية لامركزية ذات كفاءة عند استخدام مساحة ذات أبعاد محدودة لنقل رسالتها.
وبالإضافة إلى الصعوبات في تحقيق الكفاءة في البيئات غير الكلاسيكية، علينا أن نلاحظ بأن الكفاءة هي واحدة فقط من بين المعايير الممكنة، والتي تبنى على أساسها الأحكام التقييمية حول النظم الاقتصادية. بعض الناس قد يكونون مستعدين للتضحية بالكفاءة في سبيل المساواة؛ فبالنسبة لهم، فإن حقيقة أن عملية السوق تحقق الكفاءة، قد تكون غير كافية—حتى لو افترضنا وجود بيئة أو مناخ كلاسيكي. بطبيعة الحال، فإن هذا التوجه لا يحتاج بالضرورة إلى التخلي عن عملية السوق، بل ربما تعزيز ذلك بوسائل مثل الضرائب والدعم المالي. وهكذا، يمكن وضع دور للحكومة على أسس تقييمية، حتى لو تم الاعتراف بأن التدخل الحكومي سوف يؤدي إلى تخفيض كفاءة النظام الاقتصادي.
كما إنني أرى مشكلة في ترويج حجج البروفيسور كيرزنر حول النظرية أعلاه، فيما يتعلق بالتوازن التنافسي الأمثل. إن الورقة أمامنا جازمة في تجنب الاعتماد على الأسواق التي تكون بالفعل في حالة توازن. ولكن في الافتراضات الكلاسيكية، فقط يكون التوازن التنافسي هو الذي يضمن الوضع الأمثل. لذا، فإن أفضل ما يمكن قوله بالنسبة لحالات فقدان التوازن أنها قد تتجه نحو التوازن. وفي الحقيقة، فإن دراسة اشتركت في كتابتها مع أرو وبلوك عام 1959، حددتْ مجموعة من الحالات، حيث كان مثل هذا التوجه نحو التوازن قائماً. ولكن أبحاثاً لاحقة (على سبيل المثال بحث سكارف 1960) قد كشفت النقاب عن أن هذا التوجه ليس موجوداً دائماً، حتى في حالات السوق التنافسية المثالية. وفي جميع الأحوال، فإن من الصعب رؤية كيف يمكن في غياب قوى الاستقرار الادعاء نظرياً بأن الأسواق تؤدي إلى الكفاءة.( )
إن التأكيد الأساسي في دراسة كيرزنر هو حول ما يسميه المؤلف "مشكلة المعرفة الأساسية." وإلى الحد الذي يتجاوز فيه هذا القول تشتت المعرفة وفق هايك، فإن "قضية المعرفة الأساسية" هذه تبدو، ببساطة، من منطلق أن معظم القرارات—سواءً من قبل المخططين أو الشركات أو الأفراد—لا بد أن تتم دون توافر معلومات كاملة ودقيقة.( ) لا يوجد أي خلاف حول هذه النقطة. ولكن بعض المناقشات على ما يبدو توحي بأن مثل هذا الوضع من عدم اليقين يجعل اتخاذ أي سلوك عقلاني مستحيلاً منطقياً.
إنني لا أستطيع الاتفاق على ما تقدم. هنالك بالفعل نظريات متطورة حول السلوك العقلاني في حالات عدم اليقين، بما في ذلك نظرية البحث. إن نظرية القرار الإحصائية هي فقط واحدة من فروع هذا العلم. ولكن حتى إذا قبلنا بالصعوبات العملية لسلوكيات البحث الأمثل، فإن المرء يجد نفسه منساقاً إلى إطار ما يسمى بـ"العقلانية المقيدة" (سايمون 1972؛ رادنر 1975).
إنني، بطبيعة الحال، أوافق على أن الناس كثيراً ما يتصرفون من منطلق قناعات ليست صحيحة في الواقع. وفي أفضل الحالات، يكون أملنا أن يكون التصرف عقلانياً في ضوء التنبؤ بالمستقبل وليس من قبيل استرجاع الماضي. ولكن هذه المصاعب تواجه كل إنسان وليس القائمين على التخطيط وحدهم. صحيح أنه إذا كانت معلومات المخطِّط أو قناعاته مستندة إلى نقل غير كامل، فإن ذلك سوف يشكل مصدراً إضافياً للخطأ. ولكن تلك، مرة أخرى، هي مشكلة هايك!
وكما ذكر أعلاه، فإن آلية السوق تخفِّض بالفعل مساحة الرسالة المطلوبة، بيد أن ادعاءاتها قائمة على افتراض وجود بيئة كلاسيكية. ففي مناخات غير كلاسيكية، وحيث هنالك قيم مهمة غير قيمة الكفاءة في الأداء، فإن بالإمكان تقديم حجة بعدم كفاية عمليات السوق، وربما في صالح دور حكومي. ولكن لا يجوز أن يعتبر ذلك مرادفاً للتخطيط الحكومي. وفي الحقيقة، فإن هذا الدور يمكن أن يقتصر على تقدمة وتنفيذ ما يمكن تسميته بـ"قوانين اللعبة". وبالأخص، قد يشمل ذلك خلق حقوق ملكية من خلال حقوق نشر أو براءة ملكية أو اختراع. إن خلق مثل هذه الحقوق يشكل تدخلاً حكومياً في عملية السوق الحر، ولكن لا يشكل ما أسميه بـ"التخطيط المركزي". والصيغة الأخيرة ربما يجب أن تُخصَّص لنمط من التدخل الذي يمكن تسميته بـ"الاستهداف الجزئي"، والتي تكون السياسة الصناعية أو مراقبة الأسعار أو التقنين أمثلة عليها، والتي تتخذ الحكومات من خلالها قرارات تتصل بالإنتاج، والانفاق، وأسعار سلع معينة أو مجموعة من السلع.
ومع ذلك، فإن من المهم التمييز بين التخطيط المركزي الشمولي (الذي تجري محاولته في الاتحاد السوفييتي) من ناحية، وعناصر من تخطيط تلحق باقتصاديات السوق الحرة (كما نراه عادة في البلدان الغربية) من ناحية أخرى. هكذا، يجب أن نعترف بأن ما بين الاقتصاد الحر والاقتصاد المركزي الشمولي (الاستهداف الجزئي) مساحة من الاحتمالات الممكنة، بعضها يشمل استهدافاً جزئياً، وبعضها الآخر تدخلاً حكومياً بقوانين اللعبة (وبدون عنصر التخطيط أو الاستهداف الجزئي).
شخصياً، فإنني أتفق في الرأي مع البروفيسور كيرزنر بأن دولة كبيرة حديثة هي فوق الحجم الأمثل حتى تكون وحدة قابلة للاستهداف الجزئي. أسباب قناعتي—بالإضافة إلى حقل المعرفة الذي أشار إليه البروفيسور كيرزنر—لها علاقة بإحباط الحوافز الشخصية نحو الإبداع أو الكفاءة،( ) بسبب نمط تخطيط جزئي، كما هو الحال في الاتحاد السوفييتي أو الصين. ولكن ذلك لا يعني بأن النظام الحر يشكل حلاً عالمياً شاملاً.
وبالأخص، ما زال يتوجب تقديم الدليل (كما هو الادعاء في الصفحة 417) بأن "التنافس بين الشركات من أحكام ومجالات مختلفة تتجه نحو إظهار الحد الأمثل لمثل ذلك (التنظيم المركزي)."
ففي مناخ كلاسيكي ربما يكون ذلك صحيحاً، ولكن من حق المرء أن يتساءل، على سبيل المثال، عما إذا كان التوجه نحو الاندماج الذي يجري حالياً في الولايات المتحدة من شأنه منطقياً أن يدفع الاقتصاد إلى مزيد من الاقتراب من الأداء الأمثل. إذا كانت النتيجة هي الاحتكار، فإن عدم الكفاءة سوف تتبع.
دعوني أقدم اعتراضاً آخر حول الكلمة الختامية في دراسة كيرزنر، والقائلة بأن دعاة السياسة الصناعية أو التخطيط المركزي، إنما ينطلقون بالضرورة من انعدام الإدراك بمشكلة المعرفة (دعاتها المخلصون غير الواعين كلياً لمشكلة المعرفة).( ) في رأيي، فإن انعدام تقدير أهمية الحوافز يشكل مسألة أكثر خطورة. (الصين هي مثل على اقتصاد يدار مركزياً، وقد اعترفَتْ بأهمية الحوافز وبمنافع الإدارة اللامركزية). إن بعض الدعاة يرون السياسة الصناعية كحل يأتي في المرتبة الثانية، بالنظر للعيوب القائمة في الأسواق المحلية والدولية، وعلى الرغم من الصعوبات الناشئة عن مشكلة المعرفة. يستطيع المرء أن يختلف مع الرأي القائل بأن هذه قضية تأتي في المرتبة الثانية، ولكن دون أن يُتهم دعاتها بعدم الوعي بمثالبها.
إن قضية الدور المناسب للأسواق وللتدخل الحكومي هي قضية معقدة، ومن وجهة نظري، فإن الحل لا يكمن في أيّ من الطرفين المتعارضين. التحليل الموضوعي، والذي تُعتبر دراسة البروفيسور كيرزنر مساهمة مهمة لها، يُظهر المزايا والنواقص للحلول القائمة على طرفي نقيض؛ إنه يشير إلى نقاط القوة في اقتصاد السوق، مثلما يشير إلى تلك النواقص التي تبرر البحث عن وسائل مؤسسية إضافية تشمل تدخل القطاع العام. والأرجح بأن الأجوبة لن تسر الأيديولوجيين في كلا النقيضين.