الإيمان الحي: وأوّل هذه المعالم أن يكون لدى كلّ من الفرد والمجتمع إيمانٌ حي، لا يفتر ولا يسكن ولا يتجمد. ففي فطرة كلّ فرد ميل طبيعي إلى الإيمان، وهذا الميل يوجد لديه شعوراً ورغبة في الامتداد خارج ذاته نحو مبدأ علوي يستمد منه الرجاء والعزم والسكينة واليقين. وعندما يضل هذا الشعور يفتقد أي بصيرة، فلا ينبسط ولا ينفسح، وإنما ينقبض على أوّل وثن ويسقط عند أوّل حاجز. وهكذا – قبل أن يستنير الإنسان – وقف إيمانه عند الأشياء المادّية لا يستطيع أن يتجاوز ولا يقدر على رؤية سواها. وفي المجتمعات التي تنكر الألوهية، أو المجتمعات التي تفسد معناها، يقع الإيمان على التمائم والأيقونات والأضرحة، ويتجمد في المظاهر والأشكال والكلمات. فالإيمان شعور لا سبيل إلى حبسه ولا طريق إلى القضاء عليه، وإذا لم يوجه توجيهاً سليماً ينفع ويفيد فإنّه يسير سيراً خاطئاً يضر ويدمّر. ولا يتجه الإيمان اتجاهاً صحيحاً إلّا إذا تبصّر بوعي وتحرّك بقدرة. وإذا ما حدث ذلك فلابدّ أن يسمو ويتجرّد فيصل إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يكون ذا قوة وفاعلية فيقوّم الإنسان. فالإيمان في جوهره: إيمان بالله واستقامة في التصرّف... أي تجرّد سامٍ بصير، وواقعية سديدة متبصّرة. والدين الحقّ يتمحوّر على هذا المعنى، فيدعو إلى الإيمان بالله والاستقامة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف/ 13). وهذا الدين يوافق الفطرة السوية التي تتسامى إلى الجلالة وتستقيم في الإنسان. وهو – من جانب آخر – يدعو إلى التفكير في آلاء الله وأنعامه دون التفلسف في طبيعته وحقيقته، فالعقل البشري يدرك آثار الكهرباء ومظاهر الذرة، لكنه لا يستطيع أن يدرك كنه الكهرباء وحقيقة الذرة. بل إنّ هذا العقل – رغم تقدم العلوم – لم يستطيع حتى الآن أن يدرك حقيقة المادّة التي يلمسها ويتعامل معها. وفي هذا الصدد قال عالم فيزيائي معاصر: "كلما أوغلنا أكثر في تركيب المادّة كلما قلّت قدرتنا على القول بأنّنا قد عرفناها. فإنّ جزءاً منها يظل دائماً وسوف يظل إلى الأبد مما لا يمكن تفسيره لأنّه خفي عنا. ولما سُئل: خفي بمن؟! قال: بالمبدأ الأوحد، بالنظام الكوني بالله – ربما". إنّ اللاهوت الديني وفروع الفلسفة وعلوم العقائد التي تتجاوز صفات الله وآثاره، لتبحث في طبيعته وكنهه، هي دراسات بعيدة عن روح الدين مخالفة لصميمه، إنّها دراسات تنزع إلى التجريد وتبعد عن صميم الوجود... تهتم بالتركيبات العقلية والأبنية الذهنية حتى ولو خالفت الواقع وتنكبت الحياة. فالكُتب السماوية تنهى عن البحث في ذات الله لأنّ العقل بوضعه الحالي غير مؤهل لذلك، بل هو غير مؤهل لإدراك كنه المادّة، ومن ثمّ فإنّ البحث فيما وراء إدراكه يؤدي إلى الخلط ويقود إلى الشطط، ويكفي أن يدرك الناس الله من آثاره وأن تعقله من صفاته أو يحسه الإنسان بروحه ويعرفه بفؤاده.. وعندما يتجاوز العقل مرحلته الحالية إلى مرحلة أرقى، فإنّه سوف يتغير تغيّراً كيفياً، فيدرك ما لا يمكنه أن يدركه الآن، ويعرف ما يتعذّر عليه معرفته حالياً. وفي مصر القديمة، كان الله ضميراً خفيفاً للكون والناس. وكلمة آمون التي أصبحت اسماً للإله في بعض العصور تعني الخفي. وفي التوراة عندما سأل موسى (ع) عن طبيعة الله أجابه الصوت: "أنا هو أنا. أهيا شر أْيا" ولم يحدثه عن طبيعته. وطالما تحدث السيد المسيح في صفات الله الأب الرحيم المحب للإنسانية، ولم يتعرّض أبداً لكنه. وفي القرآن عن الله سبحانه وتعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى/ 11)، أي نفي المشابهة عن الله دون تعريفه أو التعرض لحقيقته. فالإيمان بالله هو صميم الدين، أمّا البحث في طبيعة الله فهو من الفلسفة وليس من عمل الدين. والإيمان بالله يظهر لدى الناس ضمن صيغ معيّنة، منها شعائر العبادة كالصلاة والصوم والزكاة. وهذه الشعائر ليست غاية في ذاتها، بل هي وسائط لازمة هامة: هي أن يبقى الإيمان حيّاً ويظل نابضاً – ما دام الإنسان يواجه الله في كلّ ما يفعل ويحيا بأمره في كلّ وقت. غير أنّه كثيراً ما يحدث أن يستسهل بعض الناس الوقوف عند الوسائط دون أن ينتبهوا للغاية منها أو يكلّفوا أنفسهم مشقة تجاوزها إلى القصد والهدف؛ وبذلك تتحول الشعائر إلى حركات مادّية وتمتمات لفظية وأوضاع جامدة لا يحيا بها إيمان ولا يستقيم تصرف. إنّ الفرد السوي والمجتمع الرشيد هو الذي يعرف أنّ صميم الدين وجوهره يكمن في الجذوة المقدسة المشتعلة دائماً والملتهبة أبداً. حتى تجعل من المؤمن إبداعاً لنفسه وللحياة، وسلاماً دائماً لنفسه وللمجتمع، ونفعاً خالصاً للإنسان والإنسانية.