الحضارة الواعية: فالشخص السوي هو الذي يكون دائماً أبداً خلاصة للتاريخ ووعياً بالحاضر وحركة إلى المستقبل، والمجتمع الرشيد هو الذي يتمثل تراثه كلّه ويتشرّب كلّ الحضارات ثمّ ينبض بنبض الحاضر في كلّ علم وكلّ ثقافة وكلّ فن، ويسعى إلى تشكيل هذا الحاضر ليرفعه ويعلو به ويسمى عليه، ويهدف إلى التأثير في المستقبل لما فيه خير الإنسانية وما فيه وجه الله. إنّ الشريعة هي المنهج الإلهي للتقدم، ومعنى التقدم ألا تعود الأنهار إلى منابعها ولا يرجع التاريخ إلى الوراء ولا يعود الزمن أدراجه؛ ذلك لأنّ الحاضر يجيء من الماضي ويسير إلى المستقبل، واليوم يولد من الأُسس ويصب في الغد؛ والحياة وهي تسير تحمل كلّ يوم، بل كلّ ثانية، تغييراً كمِّياً وكيفياً في الروح الإنساني والعقل البشري والتاريخ الحضاري. كلّ شيء في كلّ لحظة، يتغير في أبعاد شتى وفي نواح متعددة وفي فروع متشابكة وبمعادلات مركبة، بحيث تصبح أي محاولة لوقف التغير أو الحيلولة دونه نوعاً من الانتحار الاجتاعي تأباه الإنسانية ويلفظه الدين. فالمجتمع الرشيد هو الذي يدرك أنّ الزمان والتقدم والتطور هو نسيج المجتمعات وصميم الإنسانية وطبيعة الروح، وأنّه ما لم يتحرك الفرد والمجتمع مع الواقع فإنّ الواقع ينبذهما، كما تلفظهما الحياة والروح. ويعني إدراك هذا المعنى يقظة كاملة للروح وتفتحاً شديداً للحياة ووعياً مستمراً بالحضارة. إنّ في الحضارة المعاصرة مزالق وأخطاء، لكن علاجها لا يكون بالإعراض عنها، وإنما بالتداخل فيها بوعي يستطيع تمثلها، وقدرة تتمكن من تحويلها إلى اتّجاه إنساني وإلى قبلة إلهية. وإعراض جماعة أو شعب عن الحضارة لن ينال منها، لأنّها ملء العالم أجمع مؤثرة فيمن يقبلها ومَن يرفضها، لكن الإعراض – بغير شك – يحرم الحضارة من بعض عناصر الإصلاح التي يمكن أن تغير مسارها وتبدّل مصيرها، ومَن ينكر الشمس يغمض عينيه، فيعمى عن الحقيقة ولا ينال من الشمس شيئاً. وكذلك، مَن يُعرض عن عصره إنما يقوقع نفسه ويشرنق روحه ولا يغيّر في العصر شيئاً. إنّ عظمة الرسل والأنبياء أنّهم سموا إلى أعتاب الجلالة فلم يقفوا عندها، بل عادوا إلى الناس بسموهم يرفعونهم إلى أعلى المراتب الإنسانية وأصدق المعارف الكونية. لذلك، فإنّ المجتمع الرشيد هو المجتمع الذي يدرك أبعاد الزمن ويفهم أعماق التاريخ ويرى آفاق الحياة ويعي أصول الحضارات ويقف على نبض الحاضر، ويدرس كلّ علم ويتذوّق كلّ فمن ويعرف كلّ ثقافة، ثمّ يخلط ذلك كلّه بروحه ويمزجه بطابعه ويحيطه برؤاه، فيمسك عن وعي بمقود الحضارة وزمام المدنية، ويوجه هذه وتلك إلى أغراض إنسانية وإلى أهداف كونية.