هنا كان البد لي أن أتوقف للحظة ألفكر في األمر .
أنا أوافق على أن العديد من األسباب التقليدية التي تحف ثارة , ّز الناس على التداول _كاإل
والنشوة , والرغبة في أن يكون المرء بطال ,أو لفت انتباه اآلخرين عند تحقيق الربح , أو
الشفقة على الذات التي تأتي من الخسارة_أنا أوافق أن هذه األسباب سوف تخلق مشاكل
ستؤدي في نهاية المطاف إلى االنتقاص من أداء المتداول ومن نجاحه العام ,
ولكن الجاذب الحقيقي الكامن خلف التداول هو أكثر جوهرية من ذلك بكثير .
29
التداول هو نشاط يوفر للفرد حرية غير محدودة من التعبير اإلبداعي , حرية من التعبير تم
حرمان أغلبنا منها معظم حياته .
طبعا , سألني المحرر ما الذي أعنيه بذلك , فأوضحت بأنه في بيئة التداول نحن من يضع
جميع القواعد تقريبا ,
وهذا يعني أنه هناك عدد قليل جدا من القيود أو الحدود على الطريقة التي نختار أن نعبر بها
عن أنفسنا .
بالطبع هناك بعض الشكليات كوجوب أن يصبح الشخص عضوا في بورصة التبادالت حتى
يتمكن من أن يصبح مضاربا مباشرا على األرض من داخل قاعات التداول ,
أو كتوفير الحد األدنى من المتطلبات المالية لفتح حساب للمضاربة في حال لم يكن الشخص
مضاربا مباشرا من داخل قاعات التداول ,
أما فيما عدا ذلك , بمجرد أن تكون في وضع يسمح لك أن تبدأ التداول , عندها تكون
اإلمكانيات المتاحة لك لتتداول عبرها هي إمكانيات ال محدودة فعليا .
وتابعت كالمي وأعطيته مثاال عن ندوة حضرتها قبل عدة سنوات .
شخص ما قام بإجراء عملية حسابية بأنه , إذا دمجت السندات المستقبلية , وسندات الخيارات
, وأسواق السندات النقدية , فسوف يكون هناك أكثر من ثمانية مليارات تركيبة محتملة
لفروق التسعير ,
اآلن أضف إلى ذلك اعتبارات التوقيت بناء على كيفية قراءتك لظروف السوق الظاهرة ,
فتصبح عندها الطرق المختلفة للتداول ال محدودة فعليا .
المحرر توقف للحظة وسأل , "ولكن لماذا عندما نخوض في مثل هذه البيئة الغير مقيدة تكون
النتيجة فشل مستمر تماما ؟"
فأجبت , "ألن اإلمكانيات الال محدودة المقترنة مع الحرية الال محدودة الستغالل تلك
اإلمكانيات تجعل الفرد في مواجهة مع تحديات نفسية فريدة متخصصة ,
وتلك التحديات قلة قليلة جدا من الناس مهيئين بالشكل الصحيح للتعامل معها , أو حتى لديهم
أي معرفة بوجودها , والناس ال يمكنهم أن يعملوا على التغلب على أمر ما إذا كانوا أساسا ال
يعرفون بأنه مشكلة" .
الحرية شيء رائع , وكل فرد منا يريدها بطبيعته , يناضل من أجلها , بل ويتوق إليها ,
ولكن هذا ال يعني بأننا نملك القدرات النفسية المالئمة للعمل بشكل صحيح في بيئة فيها القليل
, إن وجد, من الحدود , حيث تكون إمكانية إلحاقنا أضرارا بالغة بأنفسنا هي إمكانية واردة .
30
الجميع تقريبا بحاجة إلى إجراء بعض التعديالت العقلية , بغض النظر عن خلفيتهم الدراسية
التعليمية ,
وبغض النظر عن درجة ذكاءهم ,أو إلى أي درجة كانوا ناجحين في مساعيهم األخرى .
هذا النوع من التعديالت التي أتحدث عنها لها عالقة بإنشاء أو خلق بنية أو هيكل عقلي
داخلي يزود المتداول بأكبر قدر ممكن من التوازن بين الحرية للقيام بأي شيء وبين القابلية
الموجودة للتعرض لألضرار المالية والنفسية التي يمكن أن تكون نتيجة مباشرة لتلك الحرية .
إنشاء الهيكل العقلي يمكن أن يكون صعبا بما فيه الكفاية , خاصة إذا كان ما ترغب في غرسه
يتعارض مع ما تؤمن به سلفا .
لكن بالنسبة ألولئك منا الذين يريدون أن يصبحوا متداولين , فالصعوبة في خلق الهيكل
المناسب تكمن في تراكم المقاومة العقلية التي تبدأ بالتطور في المراحل األولى من حياتنا .
جميعنا ولدنا في محيط اجتماعي من نوع ما .
المحيط االجتماعي )أو المجتمع( سواء أكان العائلة , أو المدينة , أو الوالية , أو البلد ,
يتضمن وجود بنية أو هيكلية .
الهياكل االجتماعية تتكون من القواعد , القيود , الضوابط , ومجموعة من المعتقدات التي
تصبح نمطا للسلوك , نمطا يح د من الطرق التي يمكن أو ال يمكن لألفراد الموجودين داخل هذا
الهيكل أن يعبروا بها عن أنفسهم .
عالوة على ذلك , فإن معظم القيود المفروضة في الهيكل االجتماعي تم تأسيسها قبل أن نولد
,
بعبارة أخرى , في الوقت الذي نبلغ فيه مرحلتنا الحالية هذه , يكون أغلب الهيكل االجتماعي
الذي يتحكم بالتعبير الفردي لدينا قد استقر في مكانه وتح ّصن .
من السهل أن نرى سبب الصراع بين حاجة المجتمع لهيكل و بين حاجة الفرد للتعبير عن
نفسه, و كل فرد يريد أن يتقن فن التداول يواجه مثل هذا الصراع األساسي .
أريدك أن تسأل نفسك ما هي الميزة )شكل من أشكال التعبير عن الذات( المشتركة بين جميع
األطفال المولودين على هذا الكوكب , بغض النظر عن الموقع , أو الثقافة , أو الحالة
االجتماعية التي ولد فيها الطفل .
الجواب على ذلك هو الفضول , فكل طفل فضولي , و كل طفل تواق للتعلم , ويمكن وصف
األطفال بأنهم ماكينات تعلّم صغيرة .
31
إذا فكرنا في طبيعة الفضول , على مستواه األساسي , فهو عبارة عن قوة , وألكون أكثر
تحديدا , فهو قوة مو َّجهة داخليا , مما يعني أنه ليس هناك حاجة لتحفيز الطفل على تعلم
شيء ,
فإذا تركنا األمر لهم , فاألطفال بطبيعتهم سيقومون باكتشاف ما يحيط بهم .
وما هو أكثر من ذلك أن هذه القوة المو َّجهة داخليا يبدو أن لها أيضا برنامجها الخاص بها ,
بعبارة أخرى , على الرغم من أن جميع األطفال فضوليون , إال أنهم ال يكونون فضوليين
بطبيعتهم تجاه نفس األشياء , فهناك شيء ما داخل كل فرد منا يقوم بتوجيه وعينا .
حتى الرضع يبدو أنهم يعرفون ما يريدونه وما ال يريدونه , وعندما يشهد البالغون هذه
التعبير النادر المنفرد لكل رضيع , فإنهم عادة ما يندهشون .
فهم يفترضون أن الرضع ال يملكون شيئا بداخلهم يجعلهم متميزين و فريدين بكيانهم .
يجذبهم أو ينفّ لكن كيف يمكن للرضع أن يعبروا عن فرادتهم وتميزهم سوى من خالل ما رهم
في محيطهم ؟
أن أسمي هذا التوجيه الداخلي المسّير بقوة اإلنجذابات الطبيعية .
اإلنجذابات الطبيعية هي ببساطة تلك األشياء التي نشعر تجاهها باالهتمام والشغف الطبيعي ,
فإنجذاباتنا هي عالم كبير ومتنوع , وهو يوفّر لكل منا أشياء كثيرة لنتعلمها و نعايشها ,
ولكن هذا ال يعني أن كل منا لديه اهتمام وشغف طبيعي في تعلم أو معايشة كل ما هو موجود
, فهناك آلية داخلية تجعلنا "انتقائيين بطبيعتنا" .
إذا فكرت في األمر , أنا واثق أنه بإمكانك أن تضع قائمة بمجموعة أشياء ليس لديك أدنى
اهتمام في أن تفعلها أو تكونها , فبالنسبة لي أنا أعرف أنه يمكنني أن أضع مثل هذه القائمة ,
كما يمكنك أن تضع قائمة أخرى بأشياء عندك اهتمام هامشي بسيط بها , وأخيرا , يمكنك أن
تضع قائمة بكل األشياء التي لديك اهتمام وشغف بها .
وبالطبع , فالقائمة تصغر كلما ارتفع مستوى اهتمامك .
من أين يأتي هذا االهتمام العاطفي والشغف ؟
برأيي الشخصي إنه يأتي من أعمق مستوى في وجودنا_من مستوى هويتنا الحقيقية من
مستوى كينونتنا_ , إنه يأتي من جزء داخلي منا موجود بعيدا عن الصفات والميزات
الشخصية التي إكتسبناها كنتيجة لنشأتنا االجتماعية .