عتبر سوق العملات هو أكبر الأسواق المالية وأكثرها سيولة على الإطلاق. برغم ذلك، فإن نسبة محدودة للغاية من المتداولين هي التي تحقق النجاح في هذا العالم المثير. وبرغم أن البعض يلقي باللائمة على غياب الانضباط الذاتي وضعف استراتيجية التداول في تكبد الغالبية العظمى لخسائر كبيرة، إلا أن هناك بعض العوامل المتأصلة في سوق الفوركس التي تجعل منه مكان خطير للغاية. سنلقي في السطور القادمة نظرة على هذه العوامل التي لا تجعل من سوق الفوركس مكاناً مثالياً لتحقيق الأرباح.

لماذا سوق الفوركس ليس مكاناً مثالياً للمتداولين؟
صعوبة التنبؤ
تؤثر البيانات الاقتصادية والأحداث الجيوسياسية على قيمة العملات سواء بالسلب أو بالإيجاب. برغم ذلك، فإن تفسير هذه العوامل الأساسية ليس بالمهمة السهلة. قد تؤدي بعض التقارير الاقتصادية الإيجابية إلى إضعاف العملة، وليس تقويتها كما هو متوقع، بسبب ارتباطها بعدد من العوامل الأخرى. على سبيل المثال، هناك علاقة عكسية بين الين الياباني و مؤشر نيكاي. عندما يرتفع مؤشر نيكاي، تتراجع قيمة الين عادةً حتى إذا أتت المؤشرات الاقتصادية بأفضل من توقعات المحللين. ولهذا إذا أٌقدم المتداول على فتح صفقة شرائية استناداً إلى إيجابية البيانات الاقتصادية فإنه سيواجه خسارة في حالة وضع أوامر الإيقاف عند مستويات قريبة.

أحد الشواهد التي تدعم هذه الحجة هو الأحداث المثيرة التي شهدتها حياة جون ماينارد كينز ، وهو واحد من أهم وأعظم الاقتصاديين في تاريخ البشرية. كان كينز مسئولاً عن تأسيس البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كما قدم لعلم الاقتصاد واحدة منأهم نظرياته على الإطلاق والتي حطمت أسطورة أن السوق الحرة كفيلة بتحقيق التوظيف الكامل بصورة آلية. مع نهاية الحرب العالمية الأولى، قرر كينز الدخول إلى سوق تداول العملات بل وقام بجمع أموال من أصدقائه لهذا الغرض. بطبيعة الأمر، فإن شخص بهذه العقلية الجبارة كان من المفترض أن يكون قادراً على تحقيق نجاح باهر حيث أن غزارة علمه كانت ستساعده على التنبؤ بالاتجاهات الرئيسية للعملات. برغم ذلك، وعلى عكس جميع التوقعات، خسر كينز جميع أمواله. يسوق كثيرون هذا المثال للدلالة على مدى الصعوبة البالغة التي تكتنف العمل في سوق الفوركس حتى بالنسبة لعقلية اقتصادية في مكانة جون كينز.

عدم وجود توقعات متسقة
يحدث في كثير من الأحيان أن يفشل المتداول في قراءة الوضع في أسواق العملات بطريقة صحيحة، الأمر الذي يقوده في نهاية المطاف إلى استنتاجات خاطئة. على سبيل المثال، قد تمر إحدى العملات بحالة من الضعف، ولكنها في حقيقة الأمر مجرد مرحلة توطيدية قبل البدء في ترند صعودي جديد تدعمه بعض عوامل الاقتصاد الكلي. أبرز مثال على ذلك هو ما حدث للدولار الأمريكي بعد الأزمة المالية العالمية في 2008. حققت العملة الخضراء خلال هذه الفترة أفضل أداء بين العملات الرئيسية بمجرد اندلاع شرارة الأزمة المالية. كان التوقع الغالب هو أن الدولار الأمريكي سيتكبد خسائر فادحة، ولكن حدث العكس بسبب تناقص السيولة المتاحة من الدولار لتسييل العمليات اليومية داخل النظام المالي. واضطر الاحتياطي الفيدرالي آنذاك إلى زيادة المعروض النقدي لتلبية شح السيولة. ومن المثير للسخرية، أن الأزمة المالية ذاتها قد بدأت من الولايات المتحدة بعد إفلاس بنك ليمان براذرز، وهو ما دفع كثير من المتداولين، وحتى المحللين، إلى توقع انخفاض قيمة العملة الخضراء. لسوء الحظ لم يتمكن أحد من استخلاص هذه النتيجة سوى عدد محدود من المتداولين الذين لديهم اطلاع على آليات العمل في النظام المصرفي، والتي ساعدتهم على تحقيق بعض الأرباح أو على الأقل حماية أنفسهم من الخسائر التي تكبدها آخرون. بكل تأكيد لا يتوافر لجميع المتداولين الأفراد أو حتى معظمهم ميزة الاطلاع على مثل هذه المعلومات الهامة.

صعود الصين كقوة اقتصادية عظمى
ساهم إدراج اليوان الصيني ضمن عملات الاحتياطي لدى صندوق النقد الدولي في زيادة درجة تعقيد سوق الفوركس. هناك صعوبة بالغة في معرفة أو حتى تخمين ما الذي يحدث في الصين، ولهذا يتخوف كثيرون من أن تؤدي أي أزمة غير متوقعة في أسواق العقارات أو الأسهم أو ائتمان الشركات إلى تبعات خطيرة على الأسواق العالمية، وبطبيعة الأمر فإن المتداولين الأفراد لا يمتلكون الأدوات الكافية للتعامل مع هذه التحديات.

احتمالات كبيرة لخسارة رأس المال بأكمله
من الشائع أن تجد بعض وسطاء الفوركس يقدمون لعملائهم رافعة مالية تصل إلى 1:500 أو أكثر. ولهذا فإن المتداول الذي لا يمتلك القدرة على إدارة المخاطر سوف يخسر رأسماله عاجلاً وليس آجلاً بسبب الفشل في توظيف هذا المستوى المرتفع من الرافعة المالية. يلجأ وسطاء الفوركس إلى تقديم مستويات مرتفعة من الرافعة المالية بهدف زيادة أحجام التداول، ولكنها للأسف تشجع المتداولين المبتدئين بطريقة غير مباشرة على خسارة أموالهم خلال فترة وجيزة. بعبارة أخرى، يؤدي الترويج الدعائي لانخفاض متطلبات الهامش من قبل وسطاء الفوركس إلى زيادة احتمالات تعرض المتداولين الأفراد لخسائر فادحة.

الفوركس يزرع الجشع
يحدث في بعض الحالات أن يحقق المتداول ربح بنسبة 100% في دقائق معدودة بفضل استخدام رافعة مالية كبيرة مثل 1:100. يؤدي ذلك إلى زرع شعور بالثقة المفرطة داخل المتداول، والذي ما يلبث أن يحلم بتحقيق عائدات تصل إلى 400% أو 500% في أسبوع أو حتى يوم واحد باستخدام الرافعة المالية. يؤدي هذا في نهاية المطاف إلى تعريض رصيد الحساب لمخاطر هائلة تنتهي في معظم الأحوال بخسارة تامة لأمواله نتيجة هذا الجشع.

الإدمان على تداول العملات
يعمل سوق الفوركس على مدار 24 ساعة في اليوم و5 أيام في الأسبوع، الأمر الذي يجعل من فرص التداول متاحة في أي وقت. هذا التدفق الذي لا ينقطع للمؤشرات الاقتصادية والأخبار الجيوسياسية من جميع أنحاء العالم يؤدي بطبيعة الحال إلى خلق اتجاهات على الأقل لعدد من أزواج العملات في أي وقت. تؤدي هذه العوامل مجتمعة إلى وقوع المتداول في فخ الإفراط في التداول من خلال تكرار عمليات الشراء والبيع والاحتفاظ بالعديد من الصفقات المفتوحة في معظم الأوقات. وبطبيعة الأمر، فإن زيادة وتيرة التداول بطريقة تفتقد إلى المعقولية تؤدي إلى زيادة عدد الصفقات الفاشلة، وهي الحالة التي تدفع المتداول إلى الدخول في حلقة مفرغة من التداول الانتقامي لتعويض الخسائر، وبالتبعية الوقوع في فخ الإدمان على التداول بشكل قد يؤثر حتى سلباً على حالته الصحية.

الضغوط
يتعرض سوق الفوركس لتقلبات حادة في معظم الأوقات. وعلى عكس سوق الأسهم التي لا تتأثر عادةً بالأحداث السياسية التي تقع في بلدان بعيدة، فإن أسواق العملات تتأثر بجميع الأخبار الصادرة ولهذا قد يحدث ارتفاع مفاجئ في مستوى التقلبات في أي وقت. يتطلب ذلك من المتداول متابعة الرسوم البيانية والأخبار السياسية، فضلاً عن التعرف على مواعيد صدور الأخبار القادمة للتحسب لها. برغم ذلك، يندفع بعض المتداولين في كثير من الأحيان إلى الدخول أو الخروج من صفقاتهم في وقت مبكر عما هو مخطط له، وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تكبد خسائر غير ضرورية. يقع المتداولين الذين تنقصهم الخبرة بسهولة تحت التأثير العاطفي لهذه الضغوط والانفعالات الأمر الذي يضر في أحيان كثيرة بصحتهم وحياتهم الشخصية.

صناعة مليئة بالاحتيال
اختيار وسيط نزيه في سوق العملات ليس بالمهمة السهلة، بل يتطلب قدر كبير من المهارة. يعمل سوق تبادل العملات الأجنبية خارج مقصورة البورصات الرسمية، ولهذا يعتبر مرتعاً للمحتالين في ظل سهولة إنشاء شركات وساطة في جزر نائية وإغراء الوافدين الجدد بالانضمام إليهم. هناك عدد لا يحصى من قصص الاحتيال على المتداولين المبتدئين والذين يقعون ضحية لمثل هذه الشركات المحتالة وتؤدي في معظم الأحوال إلى خسارة جميع استثماراتهم.

في أغلب الأحوال فإن هؤلاء الضحايا لا يمتلكون الوقت الكافي لتعلم التداول والبحث عن فرص الاستثمار، ولهذا يقعون فريسة للمحتالين الذين يزعمون بأنهم خبراء في عالم التداول ويسعون لإقناع الآخرين باستثمار أموالهم معهم وتحقيق عائدات كبيرة. ما يلبث أن يختفي المحتال خلال فترة قصيرة تاركاً ضحاياه يتحصرون على ضياع استثماراتهم.

يؤدي أيضاً غياب الثقة لدى متداول الفوركس الجديد إلى دفعه للبحث عن الدعم من آخرين أكثر خبرة. يستفيد المحتالون من هذه النقطة من خلال تأسيس مواقع تعرض خدمات التوصيات مقابل رسوم معينة. تلجأ هذه النوعية من المواقع أيضا إلى عرض سجلات مزيفة للأداء السابق تتضمن نتائج باهرة يستحيل تحقيقها على أرض الواقع. ينتهي المطاف بالمتداولين السذج الذين ينجذبون إلى مثل هذه الخدمات بخسارة الأموال التي دفعوها مقابل الاشتراك في خدمات التوصيات فضلاً عن خسارة رأس المال بالكامل نتيجة الدخول في صفقات خاسرة. يعزى ذلك إلى أن المبتدئين يجدون أنفسهم مضطرين لإتباع هذه التوصيات دون حتى أن يمتلكوا القدرة على فهم السبب في الخسائر التي يتكبدونها. هذه القصص المثيرة عن الغش والنصب تزرع دائماً شعور بالخوف في النفوس تجاه سوق الفوركس.

خاتمة
تشرح الحقائق سالفة الذكر السبب الذي قد يجعل من سوق الفوركس مكاناً غير مثالي بالنسبة لكثيرين، ولماذا يجب أن يتجنبه هؤلاء الذين لا يتوفر لدهم الوقت أو القدرة على تعليم أنفسهم. أما هؤلاء الذين لديهم هذه الرغبة والقدرة على التعلم من أخطائهم والتعامل مع هذا النشاط بالجدية المطلوبة فإن أمامهم الفرصة لتحقيق النجاح من التداول في سوق العملات.